{ اصْلَوْهَا } أي : ادخلوا النار على وجه تحيط بكم ، وتستوعب جميع أبدانكم{[873]} وتطلع على أفئدتكم .
{ فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ } أي : لا يفيدكم الصبر على النار شيئا ، ولا يتأسى بعضكم ببعض ، ولا يخفف عنكم العذاب ، وليست{[874]} من الأمور التي إذا صبر العبد عليها هانت مشقتها وزالت شدتها .
وإنما فعل بهم ذلك ، بسبب أعمالهم الخبيثة وكسبهم ، [ ولهذا قال ] { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
{ اصلوها } أى : ادخلوها ، وقاسوا حرها { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ } أى : ادخلوها داخرين فاصبروا على سعيرها أو لا تصبروا ، فهى مأواكم لا محالة .
{ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } الأمران ، الصبر وعدمه ، لأن كليهما لا فائدة لكم من روائه .
فقوله : { سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } خبر لمبتدأ محذوف . أى : الأمران سواء بالنسبة لكم .
{ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ } فى هذا اليوم عاقبة ، { مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أى : فى الدنيا .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله : { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ؟
قلت : لأن الصبر إنما يكون له مزية على الجزع ، لنفعة فى العاقبة بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير ، فأما الصبر على العذاب الذى هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزية له على الجزع .
وحين ينتهي هذا التأنيب الساخر المرير يعاجلهم بالتيئيس البئيس . ( اصلوها . فاصبروا أو لا تصبروا . سواء عليكم . إنما تجزون ما كنتم تعملون ) . .
وليس أقسى على منكوب بمثل هذه النكبة . من أن يعلم أن الصبر وعدم الصبر سواء . فالعذاب واقع ، ما له من دافع . وألمه واحد مع الصبر ومع الجزع . والبقاء فيه مقرر سواء صبر عليه أم هلع . . والعلة أنه جزاء على ما كان من عمل . فهو جزاء له سببه الواقع فلا تغيير فيه ولا تبديل !
وبذلك ينتهي هذا المشهد الرعيب ؛ كما ينتهي الشوط الأول بإيقاعه العنيف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قالت لهم الخزنة: {اصلوها فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم إنما تجزون ما كنتم تعملون} من الكفر والتكذيب في الدنيا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"اصْلَوْها "يقول: ذوقوا حرّ هذه النار التي كنتم بها تكذّبون، وَرِدُوها فاصبروا على ألمها وشدتها، أو لا تصبروا على ذلك، سواء عليكم صبرتم أو لم تصبروا "إنّمَا تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ" يقول: ما تجزون إلا أعمالكم: أي لا تعاقبون إلا على معصيتكم في الدنيا ربكم وكفركم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أي سواء عليكم أصبرتم أو جزعتم فلا ينفعكم ذلك.
وقوله تعالى: {تُجزون ما كنتم تعملون} أي ذلك استوجبتم بأعمالكم، لا أني أوجبت عليكم شيئا، لم تستوجبوه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
احبسوا أنفسكم على النار لتعاملوا بالحق أو لا تحبسوا سواء عليكم في أن الجزاء لا محالة واقع بكم ولا حق لكم. والجزاء مقابلة العمل بما يقتضيه في العقل من خير أو شر. والسواء والاستواء والاعتدال بمعنى واحد. والاستواء امتناع كل واحد من المقدارين من أن يكون زائدا على الآخر أو ناقصا عنه، فالصبر وترك الصبر لا ينفع واحد منهما في رفع العذاب عن أهل النار...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
"اصلوها" أي: ادخلوها. ويقال: قاسوا حرها.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: لم علل استواء الصبر وعدمه بقوله: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}؟ قلت: لأنّ الصبر إنما يكون له مزية على الجزع، لنفعه في العاقبة بأن يجازي عليه الصابر جزاء الخير، فأما الصبر على العذاب الذي هو الجزاء ولا عاقبة له ولا منفعة، فلا مزية له على الجزع.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{اصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} أي عذابكم حتم.
{فاصبروا أو لا تصبروا} فيه فائدتان:
(إحداهما) بيان عدم الخلاص وانتفاء المناص...لأن من يصبر يدوم فيه، ومن لا يصبر يدوم فيه.
(الثانية) بيان ما يتفاوت به عذاب الآخرة عن عذاب الدنيا، فإن المعذب في الدنيا إن صبر ربما انتفع بالصبر إما بالجزاء في الآخرة، وإما بالحمد في الدنيا، فيقال له ما أشجعه وما أقوى قلبه، وإن جزع يذم، فيقال يجزع كالصبيان والنسوان، وأما في الآخرة لا مدح ولا ثواب على الصبر...
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي 741 هـ :
{إنما تجزون ما كنتم تعملون} هذا تعليل لما ذكر من عذابهم، وليس تعليلا للصبر ولا لعدمه كما قال بعض الناس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{اصلوها} أي باشروا حرها وقاسوه وواصلوه كما كنتم تواصلون أذى عبادي بما يحرق قلوبهم {فاصبروا} أي فيتسبب عن تكذيبكم في الدنيا ومباشرتكم لها الآن أن يقال لكم: اصبروا على هذا الذي لا طاقة لكم به {أو لا تصبروا} فإنه لا محيص لكم عنها {سواء عليكم} أي الصبر والجزع... {إنما تجزون} أي يقع جزاؤكم الآن وفيما يأتي على الدوام {ما كنتم} أي دائماً بما هو لكم كالجبلة {تعملون} مع الأولياء غير مبالين بهم، فكان هذا ثمرة فعلكم بهم...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وحين ينتهي هذا التأنيب الساخر المرير يعاجلهم بالتيئيس البئيس. (اصلوها. فاصبروا أو لا تصبروا. سواء عليكم. إنما تجزون ما كنتم تعملون)..
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
والحصر المستفاد من كلمة {إنما} قصر قلب بتنزيل المخاطبين منزلة من يعتقد أن ما لقوه من العذاب ظلم لم يستوجبوا مثل ذلك من شدة ما ظهر عليهم من الفزع. وعدي {تجزون} إلى {ما كنتم تعملون} بدون الباء خلافاً لقوله بعده {كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون} [الطور: 19] ليشمل القصر مفعول الفعل المقصور، أي تجزون مثل عملكم لا أكثر منه فينتفي الظلم عن مقدار الجزاء كما انتفى الظلم عن أصله، ولهذه الخصوصية لم يعلق معمول الفعل بالباء إذ جعل الجزاء بمنزلة نفس الفعل...