{ يُلْقُونَ } عليه { السَّمْعَ } الذي يسترقونه من السماء ، { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } أي : أكثر ما يلقون إليه كذب{[585]} فيصدق واحدة ، ويكذب معها مائة ، فيختلط الحق بالباطل ، ويضمحل الحق بسبب قلته ، وعدم علمه . فهذه{[586]} صفة الأشخاص الذين تنزل عليهم الشياطين ، وهذه صفة وحيهم له .
وأما محمد صلى الله عليه وسلم ، فحاله مباينة لهذه الأحوال أعظم مباينة ، لأنه الصادق الأمين ، البار الراشد ، الذي جمع بين بر القلب ، وصدق اللهجة ، ونزاهة الأفعال من المحرم .
والوحي الذي ينزل عليه من عند الله ، ينزل محروسا محفوظا ، مشتملا على الصدق العظيم ، الذي لا شك فيه ولا ريب ، فهل يستوي - يا أهل العقول - هذا وأولئك ؟ وهل يشتبهان ، إلا على مجنون ، لا يميز ، ولا يفرق بين الأشياء ؟ .
والضمير فى قوله { يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } يجوز أن يعود إلى كل أفاك أثيم ، وهم الكهان وأشباههم ، والجملة صفة لهم ، أو مستأنفة .
والمراد بإلقائهم السمع : شدة الإنصات ، وقوة الإصغاء للتلقى .
والمعنى : تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم . وهؤلاء الأفاكون الآثمون ، منصتون إنصاتا شديدا إلى الشياطين ليسمعوا منهم ، وأكثر هؤلاء الكهنة كاذبون فيما يقولونه للناس ، وفيما يخبرون به عن الشياطين .
روى البخارى عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : " سأل الناس النبى صلى الله عليه وسلم عن الكهان ، فقال : إنهم ليسوا بشىء ، قالوا : يا رسول الله ، فإنهم يحدثون بالشىء يكون حقا ؟ فقال النبى صلى الله عليه وسلم " تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنى فيقرقرها - أى : فيرددها فى أذن وليه كقرقرة الدجاجة - فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة " " .
ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين . وتكون الجملة حالية أو مستأنفة ، ومعنى إلقائهم السمع : إنصاتهم إلى الملأ الأعلى ليسترقوا شيئا من السماء .
فيكون المعنى : تتنزل الشياطين على كل أفاك أثيم ، حالة كون الشياطين ينصتون إلى الملأ الأعلى . ليسترقوا شيئا من السماء ، وأكثر هؤلاء الشياطين كاذبون فيما ينقلونه إلى الأفاكين والآثمين من الكهان .
ويصح أن يكون السمع بمعنى المسموع . أى : يلقى كل من الشياطين والكهنة ما يسمعونه إلى غيرهم .
قال الجمل : قوله : { وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ } الأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم ، على معنى أن هؤلاء قلما يصدقون فيما يحكون عن الجنى . أو المعنى : وأكثر أقوالهم كاذبة لا باعتبار ذواتهم حتى يلزم من نسبة الكذب إلى أكثرهم كون أقلهم صادقا على الإطلاق . . . فالكثرة فى المسموع لا فى ذوات القائلين .
وقال بعضهم : المراد بالأكثر الكل . . .
والمقصود من هذه الآيات الكريمة إبطال ما زعمه المشركون من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تلقى هذه القرآن عن الشياطين أو عن غيرهم ، وإثبات أن هذا القرآن ما نزل إلا من عند الله - تعالى - بواسطة الروح الأمين .
والجولة الأخيرة في السورة حول القرآن أيضا . ففي المرة الأولى أكد أنه تنزيل من رب العالمين . نزل به الروح الأمين . وفي المرة الثانية نفى أن تتنزل به الشياطين . أما في هذه المرة فيقرر أن الشياطين لا تتنزل على مثل محمد [ صلى الله عليه وسلم ] في أمانته وصدقه وصلاح منهجه ؛ إنما تتنزل على كل كذاب آثم ضال من الكهان الذي يتلقون إيحاءات الشياطين ويذيعونها مع التضخيم والتهويل :
( هل أنبئكم على من تنزل الشياطين ? تنزل على كل أفاك أثيم . يلقون السمع وأكثرهم كاذبون ) . .
وكان في العرب كهان يزعمون أن الجن تنقل إليهم الأخبار ، وكان الناس يلجأون إليهم ويركنون إلى نبوءاتهم .
وأكثرهم كاذبون . والتصديق بهم جري وراء الأوهام والأكاذيب . وهم على أية حال لا يدعون إلى هدى ، ولا يأمرون بتقوى ، ولا يقودون إلى إيمان . وما هكذا كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] وهو يدعو الناس بهذا القرآن إلى منهج قويم .
ولقد كانوا يقولون عن القرآن أحيانا : إنه شعر ، ويقولون عن النبي [ صلى الله عليه وسلم ] إنه شاعر . وهم في حيرتهم كيف يواجهون هذا القول الذي لا يعرفون له نظيرا ، والذي يدخل إلى قلوب الناس ، ويهز مشاعرهم ، ويغلبهم على إرادتهم من حيث لا يملكون له ردا .
فجاء القرآن يبين لهم في هذه السورة أن منهج محمد [ صلى الله عليه وسلم ] ومنهج القرآن غير منهج الشعراء ومنهج الشعر أصلا . فإن هذا القرآن يستقيم على نهج واضح ، ويدعو إلى غاية محددة ، ويسير في طريق مستقيم إلى هذه الغاية . والرسول [ صلى الله عليه وسلم ] لا يقول اليوم قولا ينقضه غدا ، ولا يتبع أهواء وانفعالات متقلبة ؛ إنما يصر على دعوة ، ويثبت على عقيدة ، و يدأب على منهج لا عوج فيه . والشعراء ليسوا كذلك . الشعراء أسرى الانفعالات والعواطف المتقلبة . تتحكم فيهم مشاعرهم وتقودهم إلى التعبير عنها كيفما كانت . ويرون الأمر الواحد في لحظة أسود . وفي لحظة أبيض . يرضون فيقولون قولا ، ويسخطون فيقولون قولا آخر . ثم هم آصحاب أمزجة لا تثبت على حال !
هذا إلى أنهم يخلقون عوالم من الوهم يعيشون فيها ، ويتخيلون أفعالا ونتائج ثم يخالونها حقيقة واقعة يتأثرون بها . فيقل اهتمامهم بواقع الأشياء ، لأنهم يخلقون هم في خيالهم واقعا آخر يعيشون عليه !
وليس كذلك صاحب الدعوة المحددة ، الذي يريد تحقيقها في عالم الواقع ودنيا الناس . فلصاحب الدعوة هدف ، وله منهج ، وله طريق . وهو يمضي في طريقه على منهجه إلى هدفه مفتوح العين ، مفتوح القلب ، يقظ العقل ؛ لا يرضى بالوهم ، ولا يعيش بالرؤى ، ولا يقنع بالأحلام ، حتى تصبح واقعا في عالم الناس .
وقوله : يُلْقُونَ السّمْعَ يقول تعالى ذكره : يُلقي الشياطين السمع ، وهو ما يسمعون مما استرقوا سمعه من حين حدث من السماء ، إلى كُلّ أفاكٍ أثِيمٍ من أوليائهم من بني آدم . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : يُلْقُونَ السّمْعَ قال : الشياطين ما سمعته ألقته على كلّ أفّاك كذّاب .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد يُلْقُونَ السّمْعَ الشياطين ما سمعته ألقته عَلى كُلّ أفّاكٍ قال : يلقون السمع ، قال : القول .
وقوله : وأكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ يقول : وأكثر من تنزّل عليه الشياطين كاذبون فيما يقولون ويخبرون . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله وأكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ عن عروة ، عن عائشة قالت : الشياطين تسترق السمع ، فتجيء بكلمة حقّ فيقذفها في أذن وليه قال : ويزيد فيها أكثر من مئة كذبة .
وثانيهما قوله : { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } أي الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون منهم ظنونا وأمارات لنقصان علمهم ، فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها كما جاء في الحديث " الكلمة يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبه ولا كذلك محمد صلى الله عليه وسلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها وقد فسر الأكثر بالكل لقوله تعالى : { كل أفاك أثيم } . والأظهر أن الأكثرية باعتبار أقوالهم على معنى أن هؤلاء قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجني . وقيل الضمائر للشياطين أي يلقون السمع إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيختطفون منهم بعض المغيبات ويوحون به إلى أوليائهم أو يلقون مسموعهم منهم إلى أوليائهم وأكثرهم كاذبون فيما يوحون به إليهم إذ يسمعونهم لا على نحو ما تكلمت به الملائكة لشرارتهم ، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو إفهامهم .