مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{يُلۡقُونَ ٱلسَّمۡعَ وَأَكۡثَرُهُمۡ كَٰذِبُونَ} (223)

والثاني : قوله : { يلقون السمع وأكثرهم كاذبون } والمراد أنهم كانوا يقيسون حال النبي صلى الله عليه وسلم على حال سائر الكهنة فكأنه قيل لهم إن كان الأمر على ما ذكرتم فكما أن الغالب على سائر الكهنة الكذب فيجب أن يكون حال الرسول صلى الله عليه وسلم كذلك أيضا ، فلما لم يظهر في إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم عن المغيبات إلا الصدق علمنا أن حاله بخلاف حال الكهنة ، ثم إن المفسرين ذكروا في الآية وجوها . أحدها : أنهم الشياطين روي أنهم كانوا قبل أن حجبوا بالرجم يسمعون إلى الملأ الأعلى فيختطفون بعض ما يتكلمون به مما اطلعوا عليه من الغيوب ، ثم يوحون به إلى أوليائهم { وأكثرهم كاذبون } فيما يوحى به إليهم ، لأنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا . وثانيها : يلقون إلى أوليائهم السمع أي المسموع من الملائكة . وثالثها : الأفاكون يلقون السمع إلى الشياطين فيلقون وحيهم إليهم . ورابعها : يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس ، وأكثر الأفاكين كاذبون يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم ، فإن قلت { يلقون } ما محله ؟ قلت يجوز أن يكون في محل النصب على الحال أي تنزل ملقين السمع ، وفي محل الجر صفة لكل أفاك لأنه في معنى الجمع ، وأن لا يكون له محل بأن يستأنف كأن قائلا قال : لم ننزل على الأفاكين ؟ فقيل يفعلون كيت وكيت ، فإن قلت كيف قال : { وأكثرهم كاذبون } بعدما قضى عليهم أن كل واحد منهم أفاك ؟ قلت : الأفاكون هم الذين يكثرون الكذب ، لا أنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب ، فأراد أن هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكى عن الجن وأكثرهم يفتري عليهم .