قوله تعالى : { الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله } أي : في طاعته .
قوله تعالى : { والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت } أي : في طاعة الشيطان .
قوله تعالى : { فقاتلوا } أيها المؤمنون .
قوله تعالى : { أولياء الشيطان } أي : حزبه وجنوده وهم الكفار .
قوله تعالى : { إن كيد الشيطان } . مكره .
قوله تعالى : { كان ضعيفاً } كما فعل يوم بدر ، لما رأى الملائكة خاف أن يأخذوه فهرب وخذلهم .
ثم قال : { الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }
هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله { وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ } الذي هو الشيطان . في ضمن ذلك عدة فوائد :
منها : أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله ، وإخلاصه ومتابعته . فالجهاد في سبيل الله من آثار الإيمان ومقتضياته ولوازمه ، كما أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته .
ومنها : أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر والجلد ما لا يقوم به غيره ، فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون وهم على باطل ، فأهل الحق أولى بذلك ، كما قال تعالى في هذا المعنى : { إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ } الآية .
ومنها : أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق ، وهو الحق ، والتوكل على الله . فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر والثبات والنشاط ما لا يطلب ممن يقاتل عن الباطل ، الذي لا حقيقة له ولا عاقبة حميدة . فلهذا قال تعالى : { فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا }
والكيد : سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو ، فالشيطان وإن بلغ مَكْرُهُ مهما بلغ فإنه في غاية الضعف ، الذي لا يقوم لأدنى شيء من الحق ولا لكيد الله لعباده المؤمنين .
ثم ساق - سبحانه - لونا آخر من تحريضهم على الجهاد وهو تحديد الهدف يقاتل من أجله كل فريق فقال : { الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } اى أنتم - أيها المؤمنون - إذا قاتلتم فإنما تقاتلون وغياتكم إعلاء كلمة الله ، ونصرة الحق الذى جاء به رسولكم محمد صلى الله عليه وسلم . أما أعداؤكم الكافرون فإنهم يقاتلون من أجل طاعة الشيطان الذى يأمرهم بكل بغى وطغيان ، وإذا كان هذا حالكم وحالهم فعليكم - أيها المؤمنون - أن تقاتلوا أولياء الشيطان بكل قوة وصدق عزيمة { إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } أى . إن كيد الشيطان وتدبيره كان ضعيفا ، لأن الشيطان ينصر أولياءه ، والله - تعالى - ينصر أولياءه ، ولا شك أن نصرة الله - تعالى لأوليائه أقوى وأشد من نصرة الشيطان لأوليائه .
فقوله - تعالى - { الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } كلام مستأنف سيق لتشجيع المؤمنين وترغيبهم فى الجهاد ببيان الغاية والهدف الذى يعمل من أجله كل فريق ، وببيان أن المؤمنين ستكون عاقبتهم النصر والفظر لأن الله وليهم وناصرهم .
والفاء فى قوله { فقاتلوا } للتفريع ، أى إذا كانت تلك غايتكم أيها المؤمنون وتلك هى غاية أعدائكم ؛ فقاتلوهم بدون خوف أو وجل منهم لأن الله معكم بنصره وتأييده أماهم فالشيطان معهم بضعفه وفجوره .
والمراد بكيد الشيطان تدبيره ووسوسته لأتباعه بالاعتداء على المؤمنين وتأليب الناس عليهم .
قال الفخر الرازى : الكيد : السعى فى فساد الحال على جهة الاحتيال عليه ، يقال : كاده يكيده إذا سعى فى إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه . وفائدة إدخال { كَانَ } فى قوله { ضَعِيفاً } للتأكيد لضعف كيده ، يعنى أنه منذ كان ، كان موصوفا بالضعف والذلة .
وبذلك نرى أن هذه الآيات الثلاث قد شجعت المؤمنين على القتال بأبلغ أسلوب ، وأشرف دافع ، وأنبل غاية ، فقد أمرتهم بالقتال إذا كانوا حقا من المؤمنين ، الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة ، وبشرتهم برضا الله وحسن ثوابه سواء أقتلوا أم غلبوا واستنكرت عليهم أن يتثاقلوا عن القتال مع أن كل دواعى الدين والشرف والمروءة تدعوهم إليه ، وبينت لهم أنه إذا كان الكافرون الذين الغاية من قتالهم نصرة الحق أن ينفروا خفاها وثقالا للجهاد فى سبيل الله ، ثم بشرتهم فى النهاية بأن العاقبة لهم ، لأن الكافرين يستندون إلى كيد الشيطان الضعيف الباطل ، أما المؤمنون فيأوون إلى جناب الله الذى لا يخذل من اعتصم به ، ولا يخيب من التجأ إليه .
وبعد هذا التحريض الشديد من الله - تعالى - للمؤمنين على القتال فى سبيله ، حكى - سبحانه - على سبيل التعجيب حال طائفة من ضعاف الإِيمان ، كانوا قبل أن يفرض القتال عليهم يظهرون التشوق إليه . وبعد أن فرض عليهم جبنوا عنه ، وقد وبخهم الله - تعالى -على هذا المسلك الذميم ، فقال - سبحانه - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى . . . . عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } .
{ الّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطّاغُوتِ فَقَاتِلُوَاْ أَوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ إِنّ كَيْدَ الشّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً } . .
يعني تعالى ذكره : الذين صدّقوا الله ورسوله وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به ، { يقاتلونَ فِي سبيلِ اللّهِ } يقول : في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده . { وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبيلِ الطّاغُوتِ } يقول : والذين جحدوا وحدانية الله وكذّبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم ، { يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الّطاغُوتِ } يعني : في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله . يقول الله مقوّيا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومحرّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به . { فَقاتِلُوا } أيها المؤمنون { أوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ } يعني بذلك : الذين يتولونه ويطيعون أمره في خلاف طاعة الله والتكذيب به ، وينصرونه . { وإنّ كيدَ الشّيْطَانِ كانَ ضعِيفا } يعني بكيده : ما كاد به المؤمنين من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به . يقول : فلا تهابوا أولياء الشيطان ، فإنما هم حزبه وأنصاره ، وحزب الشيطان أهل وهن وضعف . وإنما وصفهم جلّ ثناؤه بالضعف ، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب ، ولا يتركون القتال خوف عقاب ، وإنما يقاتلون حمية أو حسدا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، والمؤمنون يقاتل من قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله ، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه ، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل ، وبما له من الغنيمة والظفر إن سلم . والكافر يقاتل على حذر من القتل ، وإياس من معاد ، فهو ذو ضعف وخوف .
هذه الآية تقتضي تقوية قلوب المؤمنين وتحريضهم ، و { الطاغوت } كل ما عبد واتبع من دون الله ، وتدل قرينة ذكر الشيطان بعد ذلك على أن المراد ب { الطاغوت } هنا الشيطان ، وإعلامه تعالى بضعف { كيد الشيطان } تقوية لقلوب المؤمنين ، وتجرئة لهم على مقارعة الكيد الضعيف ، فإن العزم والحزم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهده ، ودخلت كان دالة على لزوم الصفة .
وقوله : { ألم تر إلى الذين قيل لهم } اختلف المتأولون فيمن المراد بقوله { الذين قيل لهم } ؟ فقال ابن عباس وغيره : كان عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص والمقداد بن عمرو الكندي وجماعة سواهم قد أنفوا من الذل بمكة قبل الهجرة وسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبيح لهم مقاتلة المشركين فأمرهم الله تعالى بكف الأيدي ، وأن لا يفعلوا ، فلما كان بالمدينة وفرض القتال ، شق ذلك على بعضهم وصعب موقعه ، ولحقهم ما يلحق البشر من الخور والكع{[4151]} عن مقارعة العدو فنزلت الآية فيهم ، وقال قوم : كان كثير من العرب قد استحسنوا الدخول في دين محمد عليه السلام على فرائضه التي كانت قبل القتال من الصلاة والزكاة ونحوها والموادعة وكف الأيدي ، فلما نزل القتال شق ذلك عليهم وجزعوا له ، فنزلت الآية فيهم ، وقال مجاهد وابن عباس أيضاً : إنما الآية حكاية عن اليهود أنهم فعلوا ذلك مع نبيهم في وقته ، فمعنى الحكاية عنهم تقبيح فعلهم ، ونهي المؤمنين عن فعل مثله ، وقالت فرقة : المراد بالآية المنافقون من أهل المدينة عبد الله بن أبيّ وأمثاله ، وذلك أنهم كانوا قد سكنوا على الكره إلى فرائض الإسلام مع الدعة وعدم القتال ، فلما نزل القتال شق عليهم وصعب عليهم صعوبة شديدة ، إذ كانوا مكذبين بالثواب ، ذكره المهدوي . قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ويحسن هذا القول أن ذكر المنافقين يطرد فيما بعدها من الآيات ، ومعنى { كفوا أيديكم } أمسكوا عن القتال ، والفريق : الطائفة من الناس ، كأنه فارق غيره . وقوله : { يخشون الناس كخشية الله } يعني أنهم كانوا يخافون الله في جهة الموت ، لأنهم لا يخشون الموت إلا منه ، فلما كتب عليهم قتال الناس رأوا أنهم يموتون بأيديهم ، فخشوهم في جهة الموت كما كانوا يخشون الله ، وقال الحسن : قوله : { كخشية الله } يدل على أنها في المؤمنين ، وهي خشية خوف لا خشية مخالفة ، ويحتمل أن يكون المعنى يخشون الناس على حد خشية المؤمنين الله عز وجل .
قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا ترجيح لا قطع ، وقوله : { أو أشد خشية } قالت فرقة : { أو } بمعنى الواو ، وفرقة : هي بمعنى «بل » وفرقة : هي للتخيير ، وفرقة : على بابها في الشك في حق المخاطب ، وفرقة : هي على جهة الإبهام على المخاطب .
قال القاضي أبو محمد : وقد شرحت هذه الأقوال كلها في سورة البقرة في قوله : { أو أشد قسوة }{[4152]} أن الموضعين سواء ، وقولهم ، { لم كتبت علينا القتال } ؟ رد في صدر أوامر الله تعالى وقلة استسلام ، «والأجل القريب » يعنون به موتهم على فرشهم ، هكذا قال المفسرون .
قال القاضي أبو محمد : وهذا يحسن إذا كانت الآية في اليهود أو المنافقين ، وأما إذا كانت في طائفة من الصحابة ، فإنما طلبوا التأخر إلى وقت ظهور الإسلام وكثرة عددهم .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله}: طاعة لله،
{والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت}: في طاعة الشيطان. ثم حرض الله عز وجل المؤمنين، فقال: {فقاتلوا أولياء الشيطان}: المشركين بمكة.
{إن كيد}: إن مكر {الشيطان كان ضعيفا}: واهنا، كقوله سبحانه: {موهن كيد الكافرين} (الأنفال: 18)، يعني مضعف كيد الكافرين، فسار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة ففتحها، وجعل الله عز وجل للمستضعفين مخرجا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني تعالى ذكره: الذين صدّقوا الله ورسوله وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به، {يقاتلونَ فِي سبيلِ اللّهِ}: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده. {وَالّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبيلِ الطّاغُوتِ}: والذين جحدوا وحدانية الله وكذّبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم، {يُقَاتِلُونَ في سَبِيلِ الّطاغُوتِ}: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله مقوّيا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحرّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به {فَقاتِلُوا} أيها المؤمنون {أوْلِيَاءَ الشّيْطَانِ}: الذين يتولونه ويطيعون أمره في خلاف طاعة الله والتكذيب به، وينصرونه.
{إنّ كيدَ الشّيْطَانِ كانَ ضعِيفا} يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به. يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وهن وضعف. وإنما وصفهم جلّ ثناؤه بالضعف، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حمية أو حسدا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله، والمؤمنون يقاتل من قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل، وبما له من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
رغب الله المؤمنين ترغيباً وشجعهم تشجيعاً بإخبارهم أنهم إنما يقاتلون في سبيل الله. فهو وليهم وناصرهم، وأعداؤهم يقاتلون في سبيل الشيطان فلا وليّ لهم إلا الشيطان، وكيد الشيطان للمؤمنين إلى جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
إعلامه تعالى بضعف {كيد الشيطان} تقوية لقلوب المؤمنين، وتجرئة لهم على مقارعة الكيد الضعيف، فإن العزم والحزم الذي يكون على حقائق الإيمان يكسره ويهده...
اعلم أنه تعالى لما بين وجوب الجهاد، بين أنه لا عبرة بصورة الجهاد. بل العبرة بالقصد والداعي، فالمؤمنون يقاتلون لغرض نصرة دين الله وإعلاء كلمته، والكافرون يقاتلون في سبيل الطاغوت، وهذه الآية كالدلالة على أن كل من كان غرضه في فعله رضا غير الله فهو في سبيل الطاغوت، لأنه تعالى لما ذكر هذه القسمة وهي أن القتال إما أن يكون في سبيل الله: أو في سبيل الطاغوت، وجب أن يكون ما سوى الله طاغوتا، ثم إنه تعالى أمر المقاتلين في سبيل الله بأن يقاتلوا أولياء الشيطان، وبين أن كيد الشيطان كان ضعيفا، لأن الله ينصر أولياءه، والشيطان ينصر أولياءه ولا شك أن نصرة الشيطان لأوليائه أضعف من نصرة الله لأوليائه، ألا ترى أن أهل الخير والدين يبقى ذكرهم الجميل على وجه الدهر وإن كانوا حال حياتهم في غاية الفقر والذلة، وأما الملوك والجبابرة فإذا ماتوا انقرض أثرهم ولا يبقى في الدنيا رسمهم ولا ظلمهم، والكيد السعي في فساد الحال على جهة الاحتيال عليه يقال: كاده يكيده إذا سعى في إيقاع الضرر على جهة الحيلة عليه وفائدة إدخال {كان} في قوله: {كان ضعيفا} للتأكيد لضعف كيده، يعني أنه منذ كان كان موصوفا بالضعف والذلة...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
تقدم أن الطاغوت من المبالغة في الطغيان وهو مجاوزة حدود الحق والعدل والخير إلى الباطل والظلم والشر، فلو ترك المؤمنون القتال والكافرون لا يتركونه لغلب الطاغوت وعم، {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} [البقرة:251] فغلبت الوثنية المفسدة للعقول والأخلاق، وعم الظلم بعموم الاستبداد: {فقاتلوا أولياء الشيطان} فأنتم أيها المؤمنون أولياء الرحمن: {إن كيد الشيطان كان ضعيفا} وإنه يزين لأصحابه الباطل والظلم والشر، وإهلاك الحرث والنسل، فيوهمهم بوسوسته أنها خير لهم، وفيها عزهم وشرفهم، وهذا هو الكيد والخداع.
ومن سنن الله في تعارض الحق والباطل، أن الحق يعلو والباطل يسفل، وفي مصارعة المصالح والمفاسد بقاء الأصلح، ورجحان الأمثل، فالذين يقاتلون في سبيل الله يطلبون شيئا ثابتا صالحا تقتضيه طبيعة العمران فسنن الوجود مؤيدة لهم، والذين يقاتلون في سبيل الشيطان يطلبون الانتقام، والاستعلاء في الأرض بغير حق، وتسخير الناس لشهواتهم ولذاتهم وهي أمور تأباها فطرة البشر السليمة، وسنن العمران القويمة، فلا قوة ولا بقاء لها، إلا بتركها وشأنها، وإرخاء العنان لأهلها، وإنما بقاء الباطل في نومة الحق عنه، وثم معنى آخر.
هذه الآية جواب عما عساه يطوف بخواطر أولئك الضعفاء، وهو أننا لا نقاتل لأننا ضعفاء والأعداء أكثر منا عددا، وأقوى منا عددا، فدلهم الله تعالى على قوة المؤمنين التي لا تعادلها قوة، وضعف الأعداء الذي لا يفيد معه كيد ولا حيلة، وهو أن المؤمنين يقاتلون في سبيل الله وهو تأييد الحق الذي يوقن به صاحبه وصاحب اليقين والمقاصد الصحيحة الفاضلة تتوجه نفسه بكل قواها إلى إتمام الاستعداد، ويكون أجدر بالصبر والثبات، وفي ذلك من القوة ما ليس في كثرة العدد والعدد.
أقول: وفي هذه الآيات من العبرة أن القتال الديني أشرف من القتال المدني لأن القتال الديني في حكم الإسلام يقصد به الحق والعدل وحرية الدين وهي المراد بقوله تعالى: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} [البقرة:193] أي حتى لا يفتن أحد عن دينه ويكره على تركه {لا إكراه في الدين} [البقرة:256] وقال في وصف من أذن لهم بالقتال بعد ما بين إلجاء الضرورة إليه {الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر} [الحج:41] وتقدم شرح ذلك مرارا. وأما القتال المدني فإنما يقصد به الملك والعظمة، وتحكم الغالب القوي في المغلوب الضعيف، وإنما يذم أهل المدنية الحرب الدينية، لأنهم أولوا قوة وأولوا بأس شديد في الحروب المدنية، ولهم طمع في بلاد ليس مثلها تلك القوة، وإنما لها بقية من قوة العقيدة، فهم يريدون القضاء على هذه البقية ويتهمونها باطلا بهذه التهمة.
ومنها أن هذه الآيات وسائر ما ورد في القتال في السور المتعددة تدل إذا عرضت عليها أعمال المسلمين، على أن الحرب التي يوجبها الدين، ويشترط لها الشروط ويحدد لها الحدود، قد تركها المسلمون من قرون طويلة. ولو وجدت في الأرض حكومة إسلامية تقيم القرآن وتحوط الدين وأهله بما أوجبه من إعداد كل ما يستطاع من قوة واستعداد للحرب حتى تكون أقوى دولة حربية ثم إنها مع ذلك تتجنب الاعتداء فلا تبدأ غيرها بقتال بمحض الظلم والعدوان، بل تقف عند تلك الحدود العادلة في الهجوم والدفاع، لو وجدت هذه الحكومة لاتخذها أهل المدنية الصحيحة قدوة صالحة لهم، ولكن صار بعض الأمم التي لا تدين بالقرآن أقرب إلى أحكامه في ذلك ممن يدعون اتباعه، وإنما الغلبة والعزة لمن يكون أقرب إلى هداية القرآن بالفعل، على من يكون أبعد عنها وإن انتسب إليه بالقول.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ثم لمسة نفسية أخرى، لاستنهاض الهمم، واستجاشة العزائم، وإنارة الطريق، وتحديد القيم والغايات والأهداف، التي يعمل لها كل فريق:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت. فقاتلوا أولياء الشيطان. إن كيد الشيطان كان ضعيفا)..
وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق. وفي لحظة ترتسم الأهداف، وتتضح الخطوط. وينقسم الناس إلى فريقين اثنين؛ تحت رايتين متميزتين:
(الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله)..
(والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت)..
الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله؛ لتحقيق منهجه، وإقرار شريعته، وإقامة العدل "بين الناس "باسم الله. لا تحت أي عنوان آخر. اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم:
والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت، لتحقيق مناهج شتى -غير منهج الله- وإقرار شرائع شتى -غير شريعة الله- وإقامة قيم شتى -غير التي أذن بها الله- ونصب موازين شتى غير ميزان الله!
ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته.
ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم، وشتى مناهجهم، وشتى شرائعهم، وشتى طرائقهم، وشتى قيمهم، وشتى موازينهم.. فكلهم أولياء الشيطان.
ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان؛ ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان:
فقاتلوا أولياء الشيطان، إن كيد الشيطان كان ضعيفًا.
وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد. مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله، ليس لأنفسهم منها نصيب، ولا لذواتهم منها حظ. وليست لقومهم، ولا لجنسهم، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء.. إنما هي لله وحده، ولمنهجه وشريعته. وأنهم يواجهون قوما أهل باطل؛ يقاتلون لتغليب الباطل على الحق. لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية -وكل مناهج البشر جاهلية- على شريعة منهج الله؛ ولتغليب شرائع البشر الجاهلية -وكل شرائع البشر جاهلية- على الله؛ ولتغليب ظلم البشر -وكل حكم للبشر من دون الله ظلم- على عدل الله، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس..
كذلك يخوضون المعركة، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها. وأنهم يواجهون قوما، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف.. إن كيد الشيطان كان ضعيفا..
ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين، وتتحدد نهايتها. قبل أن يدخلوها. وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة -فهو واثق من النتيجة- أم بقي حتى غلب، ورأى بعينيه النصر؛ فهو واثق من الأجر العظيم.
من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه، انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى؛ والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة. وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال؛ فهي كثيرة مشهورة.. ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب، في أقصر فترة عرفت في التاريخ؛ فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة، على المعسكرات المعادية.. ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء. وبناء هذا التصور ذاته كان طرفا من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين، وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال؛ ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين؛ فأمسوا مهزومين!
وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته. فلم يكن الأمر هينا. ولم يكن مجرد كلمة تقال. ولكنه كان جهدا موصولا، لمعالجة شح النفس، وحرصها على الحياة -بأي ثمن- وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة.. وفي الدرس بقية من هذا العلاج، وذلك الجهد الموصول.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد أوضحت الآيات السابقة قضية الجهاد، وأبرزت عناصره والمخاطبين به ودوافعه، وفي هذه الآية نلاحظ أنّها تحث المجاهدين على القتال، وتبيّن أهدافهم، مؤكّدة أنّهم يقاتلون في سبيل الله ولمصلحة عباد الله، وأن الكافرين يقاتلون في سبيل الطاغوت المتجبر: (الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت) أي أنّ الحياة في كل الأحوال لا تخلو من الكفاح والصراع، غير أن جمعاً يقاتلون في طريق الحق، وجمعاً يقاتلون في طريق الشيطان والباطل.
لذلك تطلب الآية من أنصار الحق أن ينبروا لقتال أنصار الشيطان دونما رهبة وخوف: (فقاتلوا أولياء الشيطان)
كما توضح هذه الآية حقيقة مهمّة، هي أنّ الطاغوت والقوى المتجبرة مهما امتلكت من قوة ظاهرية ضعيفة في نفسها وجبانة في باطنها، وبهذا تطمئن الآية المؤمنين كي لا يخافوا من هؤلاء الطواغيت مهما أُوتوا من عدّة أو عدد، لأنّهم خالون من الهدف فارغون من الإِيمان، ولذلك كانت خططهم كلها ضعيفة خاوية كقدرتهم ولأنّهم لا يعتمدون على منشأ القدرة الأزلية الأبدية الذي هو الله العزيز القدير، بل يعتمدون على قدرة الشيطان الضعيفة الجوفاء: (إِنّ كيد الشيطان كان ضعيفاً).
أما سبب قوة المؤمنين من أنصار الحق فيعود إِلى أنهم يسيرون في طريق أهداف وحقائق تنسجم مع قانون الخليقة والوجود، وتتمتع بالصفة الأزلية الأبدية، فهم يجاهدون في سبيل تحرير الإِنسان ومحو آثار الظلم والعدوان بينما الطاغوت وأنصاره يقاتلون من أجل منافعهم الشخصية أو يعملون في خدمة الطواغيت والمستكبرين من أجل استغلال البشر إرضاء لشهواتهم الفانية الزائلة، الأمر الذي يدفع في النهاية بالمجتمع إِلى الانحطاط والزّوال، لأنّ عمل الطواغيت يتناقض وسرّ الوجود ويتعارض مع قوانين الفطرة والطبيعة، هذا من جهة، ومن جهة أُخرى فإن المؤمنين باعتمادهم على القوى الروحية يتمتعون بثقة عالية بالنفس وبهدوء باطني يمهّد لهم سبيل النصر والفوز على العدو، بل ويهبهم القوّة والقدرة على الاندفاع لمواجهة الأعداء، بينما العدو والكافر لا يعتمد على أساس قوي أبداً.
وتجدر الملاحظة هنا أنّ الآية قرنت الطاغوت بالشيطان، وهذا يدل على أن القوى الطاغوتية المتجبرة إِنّما تستمد القوة والعون من منبع ضعيف يتمثل في القوى الشيطانية والجوفاء.
هذا المضمون تذكره أيضاً الآية (27) من سورة الأعراف: (إنّا جعلنا الشّياطين أولياء للذين لا يؤمنون)..