في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب  
{ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۖ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱلطَّـٰغُوتِ فَقَٰتِلُوٓاْ أَوۡلِيَآءَ ٱلشَّيۡطَٰنِۖ إِنَّ كَيۡدَ ٱلشَّيۡطَٰنِ كَانَ ضَعِيفًا} (76)

71

ثم لمسة نفسية أخرى ، لاستنهاض الهمم ، واستجاشة العزائم ، وإنارة الطريق ، وتحديد القيم والغايات والأهداف ، التي يعمل لها كل فريق :

( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ؛ والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت . فقاتلوا أولياء الشيطان . إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) . .

وفي لمسة واحدة يقف الناس على مفرق الطريق . وفي لحظة ترتسم الأهداف ، وتتضح الخطوط . وينقسم الناس إلى فريقين اثنين ؛ تحت رايتين متميزتين :

( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ) . .

( والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ) . .

الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله ؛ لتحقيق منهجه ، وإقرار شريعته ، وإقامة العدل " بين الناس " باسم الله . لا تحت أي عنوان آخر . اعترافا بأن الله وحده هو الإله ومن ثم فهو الحاكم :

والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت ، لتحقيق مناهج شتى - غير منهج الله - وإقرار شرائع شتى - غير شريعة الله - وإقامة قيم شتى - غير التي أذن بها الله - ونصب موازين شتى غير ميزان الله !

ويقف الذين آمنوا مستندين الى ولاية الله وحمايته ورعايته .

ويقف الذين كفروا مستندين إلى ولاية الشيطان بشتى راياتهم ، وشتى مناهجهم ، وشتى شرائعهم ، وشتى طرائقهم ، وشتى قيمهم ، وشتى موازينهم . . فكلهم أولياء الشيطان .

ويأمر الله الذين أمنوا أن يقاتلوا أولياء الشيطان ؛ ولا يخشوا مكرهم ولا مكر الشيطان :

فقاتلوا أولياء الشيطان ، إن كيد الشيطان كان ضعيفًا .

وهكذا يقف المسلمون على أرض صلبة ، مسندين ظهورهم إلى ركن شديد . مقتنعي الوجدان بأنهم يخوضون معركة لله ، ليس لأنفسهم منها نصيب ، ولا لذواتهم منها حظ . وليست لقومهم ، ولا لجنسهم ، ولا لقرابتهم وعشيرتهم منها شيء . . إنما هي لله وحده ، ولمنهجه وشريعته . وأنهم يواجهون قوما أهل باطل ؛ يقاتلون لتغليب الباطل على الحق . لأنهم يقاتلون لتغليب مناهج البشر الجاهلية - وكل مناهج البشر جاهلية - على شريعة منهج الله ؛ ولتغليب شرائع البشر الجاهلية - وكل شرائع البشر جاهلية - على الله ؛ ولتغليب ظلم البشر - وكل حكم للبشر من دون الله ظلم - على عدل الله ، الذي هم مأمورون أن يحكموا به بين الناس . .

كذلك يخوضون المعركة ، وهم يوقنون أن الله وليهم فيها . وأنهم يواجهون قوما ، الشيطان وليهم فهم إذن ضعاف . . إن كيد الشيطان كان ضعيفا . .

ومن هنا يتقرر مصير المعركة في حس المؤمنين ، وتتحدد نهايتها . قبل أن يدخلوها . وسواء بعد ذلك استشهد المؤمن في المعركة - فهو واثق من النتيجة - أم بقي حتى غلب ، ورأى بعينيه النصر ؛ فهو واثق من الأجر العظيم .

من هذا التصور الحقيقي للأمر في كلتا حالتيه ، انبثقت تلك الخوارق الكثيرة التي حفظها تاريخ الجهاد في سبيل الله في حياة الجماعة المسلمة الأولى ؛ والتي تناثرت على مدى التاريخ في أجيال كثيرة . وما بنا أن نضرب لها هنا الأمثال ؛ فهي كثيرة مشهورة . . ومن هذا التصور كان ذلك المد الإسلامي العجيب ، في أقصر فترة عرفت في التاريخ ؛ فقد كان هذا التصور جانبا من جوانب التفوق الذي حققه المنهج الرباني للجماعة المسلمة ، على المعسكرات المعادية . . ذلك التفوق الذي أشرنا إليه من قبل في هذا الجزء . وبناء هذا التصور ذاته كان طرفا من المعركة الكلية الشاملة التي خاضها القرآن في نفوس المؤمنين ، وهو يخوض بهم المعركة مع أعدائهم المتفوقين في العدد والعدة والمال ؛ ولكنهم في هذا الجانب كانوا متخلفين ؛ فأمسوا مهزومين !

وها نحن أولاء نرى الجهد الذي بذله المنهج في إنشاء هذا التصور وتثبيته . فلم يكن الأمر هينا . ولم يكن مجرد كلمة تقال . ولكنه كان جهدا موصولا ، لمعالجة شح النفس ، وحرصها على الحياة - بأي ثمن - وسوء التصور لحقيقة الربح والخسارة . . وفي الدرس بقية من هذا العلاج ، وذلك الجهد الموصول .