قوله تعالى : { قال } موسى { لا تؤاخذني بما نسيت } ، قال ابن عباس : إنه لم ينس ، ولكنه من معاريض الكلام ، فكأنه نسي شيئاً آخر . وقيل : معناه بما تركت من عهدك ، والنسيان : الترك . وقال أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم : " كانت الأولى من موسى نسياناً والوسطى شرطاً والثالثة عمداً " . { ولا ترهقني } ولا تغشني { من أمري عسرا } وقيل : لا تكلفني مشقة يقال أرهقته عسرا ، أي : كلفته ذلك ، يقول : لا تضيق علي أمري ، وعاملني باليسر ، ولا تعاملني بالعسر .
ولكن موسى - عليه السلام - رد معتذرا لما فرط منه وقال : { لا تؤاخذنى } أيها العبد الصالح ، بما نسيت ، أى : بسبب نسيانى لوصيتك فى ترك السؤال والاعتراض حتى يكون لى منك البيان . { وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } أى : ولا تكلفنى من أمرى مشقة فى صحبتى إياك .
يقال : أرهق فلان فلانا . إذا أتعبه وأثقل عليه وحمله ما لا يطيقه .
والمراد : التمس لى عذرا بسبب النسيان ، ولا تضيق على الأمر ، فإن فى هذا التضييق ما يحول بيني وبين الانتفاع بعلمك .
وكأن موسى - عليه السلام - الذى اعتزم الصبر وقدم المشيئة ، ورضى بشروط الخضر فى المصاحبة . . كأنه قد نسى كل ذلك أمام المشاهدة العملية ، وأمام التصرف الغريب الذى صدر من الخضر دون أن يعرف له سببا .
وهكذا الطبيعة البشرية تلتقى فى أنها تجد للتجربة العملية وقعا وطعما ، يختلف عن الوقع والطعم الذى تجده عند التصور النظرى .
فموسى - عليه السلام - وعد الخضر بأنه سيصبر . . . إلا أنه بعد أن شاهد ما لا يرضيه اندفع مستنكرا .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } .
يقول عزّ ذكره : قَالَ العالم لموسى إذ قال له ما قال أَلمْ أقُل إنّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا على ما ترى من أفعالي ، لأنك ترى ما لم تُحِط به خبرا قال له موسى : لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ . فاختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم : كان هذا الكلام من موسى عليه السلام للعالِم معارضة ، لا أنه كان نسي عهده ، وما كان تقدّم فيه حين استصحبه بقوله : فإنِ اتّبَعْتَنِي فَلا تَسألْنِي عَنْ شَيْءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرا . ذكر من قال ذلك :
حُدثت عن يحيى بن زياد ، قال : ثني يحيى بن المهلب ، عن رجل ، عن سعيد بن جبير ، عن أبيّ بن كعب الأنصاريّ في قوله : لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ قال : لم ينس ، ولكنها من معاريض الكلام .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : لا تؤاخذني بتركي عهدك ، ووجه أن معنى النسيان : الترك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، قال : ثني محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن عمارة ، عن الحكم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ : أي بما تركت من عهدك .
والصواب من القول في ذلك أن يقال : إن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذِه بِما نسِي فيه عهده من سؤاله إياه على وجه ما فعل وسببه لا بما سأله عنه ، وهو لعهده ذاكر للصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن ذلك معناه من الخبر ، وذلك ما :
حدثنا به أبو كريب ، قال : حدثنا يحيى بن آدم ، قال : حدثنا ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، عن أبيّ بن كعب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تُؤاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ قالَ : «كانَتِ الأُوَلى مِنْ مُوسَى نِسْيانا » .
وقوله : ولا تُرْهِقْنِي مِنْ أمْرِي عُسْرا يقول : لا تُغْشِني من أمري عسرا ، يقول : لا تضيق عليّ أمري معك ، وصحبتي إياك .
{ قال لا تؤاخذني بما نسيت } بالذي نسيته أو بشيء نسيته ، يعني وصيته بأن لا يعترض عليه أو بنسياني إياها ، وهو اعتذار بالنسيان أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها . وقيل أراد بالنسيان الترك أي لا تؤاخذني بما تركت من وصيتك أول مرة . وقيل إنه من معاريض الكلام والمراد شيء آخر نسيه . { ولا تُرهقني من أمري عسرا } ولا تغشني عسرا من أمري بالمضايقة والمؤاخذة على المنسي ، فإن ذلك يعسر على متابعتك و{ عسراً } مفعول ثاني لترهق فإنه يقال : رهقه إذا غشيه وأرهقه إياه ، وقرئ " عُسُرا " بضمتين .
اعتذر موسى بالنسيان وكان قد نسي التزامه بما غشي ذهنه من مشاهدة ما ينكره .
والنهي مستعمل في التعطف والتماس عدم المؤاخذة ، لأنه قد يؤاخذه على النسيان مؤاخذةَ من لا يَصلح للمصاحبة لما ينشأ عن النسيان من خطر . فالحَزامة الاحتراز من صحبة من يطرأ عليه النسيان ، ولذلك بني كلام موسى على طلب عدم المؤاخذة بالنسيان ولم يبن على الاعتذار بالنسيان ، كأنه رأى نفسه محقوقاً بالمؤاخذة ، فكان كلاماً بديع النسيج في الاعتذار .
والمؤاخذة : مفاعلة من الأخذ ، وهي هنا للمبالغة لأنها من جانب واحد كقوله تعالى : { ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم } [ النحل : 61 ] .
و ( ما ) مصدرية ، أي لا تؤاخذني بنسياني .
والإرهاق : تعدية رهق ، إذا غشِي ولحق ، أي لا تُغشِّني عسراً . وهو هنا مجاز في المعاملة بالشدة .
والإرهاق : مستعار للمعاملة والمقابلة .
والعسر : الشدة وضد اليسر . والمراد هنا : عسر المعاملة ، أي عدم التسامح معه فيما فعله فهو يسأله الإغضاء والصفح .
و ( مِن ) يجوز أن تكون ابتدائية ، فكون المراد بأمره نسيانه ، أي لا تجعل نسياني منشئاً لإرهاقي عُسراً . ويجوز أن تكون بيانية فيكون المراد بأمره شأنه معه ، أي لا تجعل شأني إرهاقك إياي عسراً .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.