قوله تعالى : { بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين } . قال ابن عباس رضي الله عنهما : يعني ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذونه بالتطفيف . وقال مجاهد : بقية الله : أي طاعة الله ، خير لكم إن كنتم مؤمنين بأن ما عندكم من رزق الله وعطائه .
قوله تعالى : { وما أنا عليكم بحفيظ } ، بوكيل . وقيل : إنما قال ذلك لأنه لم يؤمر بقتالهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لّكُمْ إِن كُنتُم مّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } .
يعني تعالى ذكره بقوله : { بَقِيّة اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } : ما أبقاه الله لكم بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط ، فأحله لكم ، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان ، { إنْ كُنْتمْ مُؤْمِنِينَ } . يقول : إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده وحلاله وحرامه . وهذا قول رُوي عن ابن عباس بإسناد غير مرتضىً عند أهل النقل .
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك ؛ فقال بعضهم : معناه : طاعة الله خير لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا أبو وكيع وحدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن سفيان ، عن ليث ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال : طاعة الله خير لكم .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن عنبسة ، عن محمد بن عبد الرحمن ، عن القاسم بن أبي بَزّة ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ } ، قال : طاعة الله خَيْرٌ لَكُمْ .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ } ، قال : طاعة الله .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا الثوري ، عن ليث ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال : طاعة الله خير لكم .
حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال : طاعة الله .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، نحوه .
وقال آخرون : معنى ذلك : حظّكم من ربكم خير لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } : حظكم من ربكم خير لكم .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ } ، قال : حظكم من الله خير لكم .
وقال آخرون : معناه : رزق الله خير لكم . ذكر من قال ذلك :
حدثني الحارث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا سفيان ، عمن ذكره ، عن ابن عباس : { بَقِيّةُ اللّهِ } ، قال : رزق الله .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : { بَقِيّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنين } ، قال : الهلاك في العذاب ، والبقية في الرحمة .
وإنما اخترت في تأويل ذلك القول الذي اخترته ، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان ، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب ، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة أولى ، مع أن قوله : { بَقِيّةُ } ، إنما هي مصدر من قول القائل : بَقيت بَقِيّة من كذا ، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى : بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسكم إياهم في الكيل والوزن .
وقوله : { وَما أنا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } ، يقول : وما أنا عليكم أيها الناس برقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم ، وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربي فقد أبلغتكموها .
لفظ { بقيت } كلمة جامعة لمعان في كلام العرب ، منها : الدوام ، ومؤذنة بضده وهو الزوال ، فأفادت أن ما يقترفونه متاع زائل ، وما يدعوهم إليه حظ باق غير زائل ، وبقاؤه دنيوي وأخروي .
فأمّا كونه دنيوياً فلأن الكسب الحلال ناشىء عن استحقاق شرعي فطري ، فهو حاصل من تراض بين الأمة فلا يحنق المأخوذ منه على آخذه فيعاديه ويتربص به الدوائر فَبتَجَنب ذلك تبقى الأمّة في أمن من توثّب بعضها على بعض ، ومن أجل ذلك قَرَنَ الأموال بالدماء في خطبة حجة الوداع إذ قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام " فكما أن إهراق الدماء بدون حق يفضي إلى التقاتل والتفاني بين الأمة فكذلك انتزاع الأموال بدون وجهها يفضي إلى التواثب والتثاور فتكون معرّضة للابتزاز والزوال . وأيضاً فلأنّ نوالَها بدون رضى الله عن وسائل أخذها كفران لله يعرّض إلى تسليط عقابه بسلبها من أصحابها . قال ابن عطاء الله : « من لم يشكر النعَم فقد تعرض لزوالها ومن شكرها فقد قيّدها بعقالها » .
وأمّا كونه أخرويا فَلأنّ نهيَ الله عنها مقارنٌ للوعد بالجزاء على تركها ، وذلك الجزاء من النعيم الخالد كما في قوله تعالى : { والباقيات الصالحات خيرٌ عند ربك ثواباً وخيرٌ مردّاً } [ مريم : 76 ] .
على أنّ لفظ ( البقية ) يحتمل معنى آخر من الفضل في كلام العرب ، وهو معنى الخير والبركة لأنّه لا يبقى إلاّ ما يحتفظ به أصحابه وهو النفائس ، ولذلك أطلقت ( البقية ) على الشيء النفيس المبارك كما في قوله تعالى : { فيه سكينةٌ من ربكم وبقيةٌ ممّا ترك آل موسى وآل هارون } [ البقرة : 248 ] ، وقوله : { فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض } [ هود : 116 ] وقال عمرو بن معد يكرب أو رويشد الطائي :
إن تذنبوا ثم تأتيني بَقيتكم *** فما عَليّ بِذَنْب مِنكمُ فَوْت
قال المرزوقي : المعنى ثم يأتيني خِياركم وأماثلكم يقيمون المعذرة وهذا كما يقال : فلان من بقية أهل ، أي من أفاضلهم .
وفي كلمة ( البقية ) معنى آخر وهو الإبقاء عليهم ، والعرب يقولون عند طلب الكفّ عن القتال : ابقوا علينا ، ويَقولون « البقيةَ البقيةَ » بالنصب على الإغراء ، قال الأعشى :
قالوا البقيةَ والهنديُّ يحصدهم *** ولا بقيةَ إلا الثار وانكشفوا
أُذَكّرُ بالبُقْيَا على مَنْ أصابني *** وَبُقْيَايَ أنّي جاهد غير مؤتلي
والمعنى إبقاء الله عليكم ونجاتكم من عذاب الاستئصال خير لكم من هذه الأعراض العاجلة السيّئة العاقبة ، فيكون تعريضاً بوعيد الاستئصال . وكل هذه المعاني صالحة هنا . ولعلّ كلام شعيب عليه السّلام قد اشتمل على جميعها فحكاه القرآن بهذه الكلمة الجامعة .
وإضافة ( بقية ) إلى اسم الجلالة على المعاني كلها جمعا وتفريقاً إضافةُ تشريف وتيمّن . وهي إضافة على معنى اللاّم لأن البقية من فضله أو ممّا أمر به .
ومعنى { إن كنتم مؤمنين } إن كنتم مصدقين بما أرسلت به إليكم ، لأنهم لا يتركون مفاسدهم ويرتكبون ما أمروا به إلاّ إذا صَدقوا بأن ذلك من عند الله ، فهنالك تكون بقية الله خيراً لهم ، فموقع الشرط هو كون البقية خيراً لهم ، أي لا تكون البقية خيراً إلاّ للمؤمنين .
وجاء باسم الفاعل الذي هو حقيقة في الاتّصاف بالفعل في زمان الحال تقريباً لإيمانهم بإظهار الحرص على حصوله في الحال واستعجالاً بإيمانهم لئَلاّ يفجأهم العذاب فيفوت التدارك .
وجملة { وما أنا عليكم بحفيظ } في موضع الحال من ضمير { اعبُدوا } ونظائره ، أي افعلوا ذلك باختياركم لأنه لصلاحكم ولست مكرهكم على فعله .
والحفيظ : المجبر ، كقوله : { فإن أعرضوا فما أرسلناك عليهم حفيظاً إن عليك إلاّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] وتقدم عند قوله تعالى : { وما جعلناك عليهم حفيظاً } في سورة [ الأنعام : 107 ] . والمقصود من ذلك استنزال طائرهم لئلا يشمئزّوا من الأمر . وهذا استقصاء في الترغيب وحسن الجدال .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.