معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَآءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ} (70)

قوله تعالى : { أم يقولون به جنة } جنون ، وليس كذلك ، { بل جاءهم بالحق } يعني بالصدق والقول الذي لا تخفى صحته وحسنه على عاقل . { وأكثرهم للحق كارهون* }

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَآءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ} (70)

أمْ يَقُولُونَ بِهِ جنّةٌ يقول : أيقولون بمحمد جنون ، فهو يتكلم بما لا معنى له ولا يُفهم ولا يَدْرِي ما يقول : بَلْ جاءَهُمْ بالحَقّ يقول تعالى ذكره : فإن يقولوا ذلك فكَذِبُهم في قيلهم ذلك واضح بيّن وذلك أن المجنون يَهذِي فيأتي من الكلام بما لا معنى له ، ولا يعقل ولا يفهم ، والذي جاءهم به محمد هو الحكمة التي لا أحكم منها والحقّ الذي لا تخفى صحته على ذي فطرة صحيحة ، فكيف يجوز أن يقال : هو كلام مجنون ؟ وقوله : وأكْثَرُهُمْ للْحَقّ كارِهُونَ يقول تعالى ذكره : ما بهؤلاء الكفرة أنهم لم يعرفوا محمدا بالصدق ولا أن محمدا عندهم مجنون ، بل قد علموه صادقا محقّا فيما يقول وفيما يدعوهم إليه ، ولكن أكثرهم للإذعان للحقّ كارهون ولأتباع محمد ساخطون ، حسدا منهم له وبغيا عليه واستكبارا في الأرض .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَآءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ} (70)

وقوله { أم يقولون به جنة } توبيخ أيضاً لأن الفرق بين الحكمة وفصل الخطاب الذي جاء به وبين كلام ذي الجنة لا يخفى على ذي فطرة ، ثم بين تعالى حاله عليه السلام في مجيئه بالحق .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَآءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ} (70)

ولما كان البشر قد يعرض له ما يسلب خصاله وهو اختلال عقله عطف على { أم لم يعرفوا رسولهم } قوله { أم يقولون به جنة } ، وهو الاستفهام الرابع ، أي ألعلهم ادعوا أن رسولهم الذي يعرفونه قد أصيب بجنون فانقلب صدقه كذباً .

الجِنّة : الجنون ، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان ، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن .

والجِنّة يطلق على الجنِّ وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله : { من الجِنّة والناس } [ الناس : 6 ] . ويطلق الجِنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون ، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة . وتقدم عند قوله تعالى { أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة } في سورة الأعراف ( 184 ) . وهم لم يظنوا به الجنون ولكنهم كانوا يقولونه بألسنتهم بهتاناً . وليس القول بألسنتهم هو مصب الاستفهام . ثم قد نُقض ما تسبب على ما اختلقوه فجيء بحرف الإضراب في الخبر في معنى الاستدراك وهو ( بل ) .

والحق : الثابت في الواقع ونفس الأمر ، يكون في الذوات وأوصافها . وفي الأجناس ، وفي المعاني ، وفي الأخبار . فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر ، فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق ، فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط .

فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع ذلك من الشرائع النازلة بمكة ، كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم ، والاعتراف للفاضل بفضله . وزجر الخبيث عن خبثه ، وأخوة المسلمين ، بعضهم لبعض ، والمساواة بينهم في الحق . ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأْد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين . ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان . والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم . فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال { ما خلقناهما إلا بالحق } [ الدخان : 39 ] . ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسول حقٌّ نقضاً لإنكارهم صدقه . ولقولهم هو مجنون كان ما بعد ( بل ) نقضاً لقولهم .

وظاهر تناسق الضمائر يقتضي أن ضمير { أكثرهم } يعود إلى القوم المتحدث عنهم في قوله { فذرهم في غمرتهم } [ المؤمنون : 54 ] فيكون المعنى : أكثر المشركين من قريش كارهون للحق . وهذا تسجيل عليهم بأن طباعهم تأنف الحق الذي يخالف هواهم لما تخلقوا به من الشرك وإتيان الفواحش والظلم والكبر والغصب وأفانين الفساد ، بله ما هم عليه من فساد الاعتقاد بالإشراك وما يتبعه من الأعمال كما قال تعالى : { ولهم أعمال من دون ذلك هم لها عاملون } [ المؤمنون : 63 ] ، فلا جرم كانوا بذلك يكرهون الحق لأن جنس الحق يجافي هذه الطباع . ومن هؤلاء أبو جهل قال تعالى : { ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } إلى قوله : { ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عليهم من بيننا } [ الأنعام : 52 ، 53 ] .

وإنما أسندت كراهية الحق إلى أكثرهم دون جميعهم إنصافاً لمن كان منهم من أهل الأحلام الراجحة الذين علموا بطلان الشرك وكانوا يجنحون إلى الحق ولكنهم يشايعون طغاة قومهم مصانعة لهم واستبقاء على حرمة أنفسهم بعلمهم أنهم إن صدعوا بالحق لقوا من طغاتهم الأذى والانتقاص ، وكان من هؤلاء أبو طالب والعباس والوليد بن المغيرة . فكان المعنى : بل جاءهم بالحق فكفروا به كلهم ، فأما أكثرهم فكراهية للحق ، وأما قليل منهم مصانعة لسائرهم وقد شمل الكفر جميعهم .

وتقدم المعمول في قوله { للحق كارهون } اهتمام بذكر الحق حتى يستوعي السامع ما بعده فيقع من نفسه حسن سماعه موقع العجب من كارهيه ، ولما ضعف العامل فيه بالتأخير قرن المعمول بلام التقوية .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{أَمۡ يَقُولُونَ بِهِۦ جِنَّةُۢۚ بَلۡ جَآءَهُم بِٱلۡحَقِّ وَأَكۡثَرُهُمۡ لِلۡحَقِّ كَٰرِهُونَ} (70)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{أم يقولون به جنة} قالوا: إن بمحمد جنونا، يقول الله، عز وجل: {بل جاءهم} محمد صلى الله عليه وسلم {بالحق} يعني: بالتوحيد {وأكثرهم للحق} يعني: التوحيد {كارهون}.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

"أمْ يَقُولُونَ بِهِ جنّةٌ" يقول: أيقولون بمحمد جنون، فهو يتكلم بما لا معنى له ولا يُفهم ولا يَدْرِي ما يقول.

"بَلْ جاءَهُمْ بالحَقّ" يقول تعالى ذكره: فإن يقولوا ذلك فكَذِبُهم في قيلهم ذلك واضح بيّن، وذلك أن المجنون يَهذِي فيأتي من الكلام بما لا معنى له، ولا يعقل ولا يفهم، والذي جاءهم به محمد هو الحكمة التي لا أحكم منها والحقّ الذي لا تخفى صحته على ذي فطرة صحيحة، فكيف يجوز أن يقال: هو كلام مجنون؟. وقوله: "وأكْثَرُهُمْ للْحَقّ كارِهُونَ" يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء الكفرة أنهم لم يعرفوا محمدا بالصدق ولا أن محمدا عندهم مجنون، بل قد علموه صادقا محقّا فيما يقول وفيما يدعوهم إليه، ولكن أكثرهم للإذعان للحقّ كارهون ولأتباع محمد ساخطون، حسدا منهم له وبغيا عليه واستكبارا في الأرض.

تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :

{بل جاءهم بالحق} بالرسالة والقرآن من عند الله وجعل العبادة له من دون الأصنام التي عبدوها.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

الجِنة: الجنون، وكانوا يعلمون أنه بريء منها، وأنه أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً، ولكنه جاءهم بما خالف شهواتهم وأهواءهم، ولم يوافق ما نشأوا عليه، وسيط بلحومهم ودمائهم من اتباع الباطل، ولم يجدوا له مردّاً ولا مدفعاً لأنه الحق الأبلج والصراط المستقيم، فأَخلدوا إلى البهت وعوّلوا على الكذب من النسبة إلى الجنون والسحر والشعر.

فإن قلت: قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ} فيه أن أقلهم كانوا لا يكرهون الحق. قلت: كان فيهم من يترك الإيمان به أنفة واستنكافاً من توبيخ قومه وأن يقولوا صبأ وترك دين آبائه، لا كراهة للحق، كما يحكى عن أبي طالب.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{أم يقولون به جنة} وهذا أيضا ظاهر الفساد؛ لأنهم كانوا يعلمون بالضرورة أنه أعقل الناس، والمجنون كيف يمكنه أن يأتي بمثل ما أتي به من الدلائل القاطعة والشرائع الكاملة، ولقد كان من المبغضين له عليه السلام من سماه بذلك.وفيه وجهان:

أحدهما: أنهم نسبوه إلى ذلك من حيث كان يطمع في انقيادهم له وكان ذلك من أبعد الأمور عندهم فنسبوه إلى الجنون لذلك.

والثاني: أنهم قالوا ذلك إيهاما لعوامهم لكي لا ينقادوا له فأوردوا ذلك مورد الاستحقار له. ثم إنه سبحانه بعد أن عد هذه الوجوه، ونبه على فسادها قال: {بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون} من حيث تمسكوا بالتقليد ومن حيث علموا أنهم لو أقروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لزالت مناصبهم ولاختلت رياساتهم فلذلك كرهوه...

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما فرغ بما قد يجر إلى الطعن في القول أو القائل، أشار إلى العناد في أمر القائل والقول والرسول بقوله: {أم يقولون} أي بعد تدبر ما أتى به وعدم عثورهم فيه على وجه من وجوه الطعن {به} أي برسولهم {جنة} أي فلا يوثق به لأنه قد يخلط فيأتي بما فيه مطعن وإن خفي وجه الطعن فيه في الحال.

ولما كانت هذه الأقسام منتفية ولا سيما الأخير المستلزم عادة للتخليط المستلزم للباطل، فإنهم أعرف الناس بهذا الرسول الكريم وأنه أكملهم خلقاً، وأشرفهم خلقاً، وأطهرهم شيماً، وأعظمهم همماً، وأرجحهم عقلاً، وأمتنهم رأياً وأرضاهم قولاً، وأصوبهم فعلاً، اضرب عنها وقال: {بل} أي لم ينكصوا عند سماع الآيات ويسمروا ويهجروا لاعتقاد شيء مما مضى، وإنما فعلوا ذلك لأن هذا الرسول الكريم {جاءهم بالحق} الذي لا تخليط فيه بوجه، ولا شيء أثبت منه ولا أبين مما فيه من التوحيد والأحكام، ولقد أوضح ذلك تحديهم بهذا الكتاب فعجزوا فهو بحيث لا يجهله منصف {وأكثرهم} أي والحال أن أكثرهم {للحق كارهون} متابعة للأهواء الرديئة والشهوات البهيمية عناداً، وبعضهم، يتركونه جهلاً وتقليداً أو خوفاً من أن يقال: صبأ، وبعضهم يتبعه توفيقاً من الله وتأييداً.

تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :

قال الله في الرد عليهم في هذه المقالة: {بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ} أي: بالأمر الثابت، الذي هو صدق وعدل، لا اختلاف فيه ولا تناقض، فكيف يكون من جاء به، به جنة؟! وهلا يكون إلا في أعلى درج الكمال، من العلم والعقل ومكارم الأخلاق، وأيضا فإن في هذا الانتقال مما تقدم، أي: بل الحقيقة التي منعتهم من الإيمان أنه جاءهم بالحق...وأعظم الحق الذي جاءهم به إخلاص العبادة لله وحده، وترك ما يعبد من دون الله، وقد علم كراهتهم لهذا الأمر وتعجبهم منه، فكون الرسول أتى بالحق، وكونهم كارهين للحق بالأصل، هو الذي أوجب لهم التكذيب بالحق لا شكا ولا تكذيبا للرسول،

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

إنه ما من شبهة من هذه الشبهات يمكن أن يكون لها أصل. إنما هي كراهية أكثرهم للحق، لأنه يسلبهم القيم الباطلة التي بها يعيشون، ويصدم أهواءهم المتأصلة التي بها يعتزون..

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

الجِنّة: الجنون، وهو الخلل العقلي الذي يصيب الإنسان، كانوا يعتقدون أنه من مس الجن...

والجِنّة يطلق على الجنِّ وهو المخلوقات المستترة عن أبصارنا كما في قوله: {من الجِنّة والناس} [الناس: 6]. ويطلق الجِنة على الداء اللاحق من إصابة الجن وصاحبه مجنون، وهو المراد هنا بدليل باء الملابسة...

والحق: الثابت في الواقع ونفس الأمر، يكون في الذوات وأوصافها. وفي الأجناس، وفي المعاني، وفي الأخبار. فهو ضد الكذب وضد السحر وضد الشعر، فما جاءهم به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخبار والأوامر والنواهي كله ملابس للحق، فبطل بهذا ما قالوه في القرآن وفي الرسول عليه الصلاة والسلام مقالة من لم يتدبروا القرآن ومن لم يراعوا إلا موافقة ما كان عليه آباؤهم الأولون ومن لم يعرفوا حال رسولهم الذي هو من أنفسهم ومقالة من يرمي بالبهتان فنسبوا الصادق إلى التلبيس والتغليط...

فالحق الذي جاءهم به النبي أوله إثبات الوحدانية لله تعالى وإثبات البعث وما يتبع ذلك من الشرائع النازلة بمكة، كالأمر بالصلاة والزكاة وصلة الرحم، والاعتراف للفاضل بفضله. وزجر الخبيث عن خبثه، وأخوة المسلمين، بعضهم لبعض، والمساواة بينهم في الحق. ومنع الفواحش من الزنى وقتل الأنفس ووأْد البنات والاعتداء وأكل الأموال بالباطل وإهانة اليتيم والمسكين. ونحو ذلك من إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من العدوان. والخلافة التي نشأوا عليها من عهد قديم. فكل ما جاء به الرسول يومئذ هو الموافق لمقتضى نظام العمران الذي خلق الله عليه العالم فهو الحق كما قال {ما خلقناهما إلا بالحق} [الدخان: 39]. ولما كان قول الكاذب وقول المجنون المختص بهذا الذي لا يشاركهما فيه العقلاء والصادقون غير جاريين على هذا الحق كان إثبات أن ما جاء به الرسول حقٌّ نقضاً لإنكارهم صدقه. ولقولهم هو مجنون كان ما بعد (بل) نقضاً لقولهم.

التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :

رأينا بعض المفسرين يقفون عند جملة {وأكثرهم للحق كارهون} ليقولوا إنها تعني أن منهم من لا يكره الحق مع كفره وليذكروا اسم أبي طالب عم النبي الذي لم يؤمن حياء لا مكابرة ولا كراهية للحق، ومع أنه كان بين الكافرين من هو معتدل الموقف ومقر بقلبه بالحق الذي جاء به النبي على ما شرحناه في سياق آية {وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا} [القصص: 57] فإنه يتبادر لنا أن الجملة أسلوبية تكرر نوعها في القرآن مثل {وأكثرهم الكافرون} [النحل: 83] و {وأكثرهم لا يعقلون} [المائدة: 103] و {أكثرهم لا يعلمون} [القصص 57] الخ. ونقول هنا أيضا: إن جملة {وأكثرهم للحق كارهون} وما في بابها إنما كانت تسجيلا لواقع سامعي القرآن حين نزول الآيات بدليل أن أكثر من نعتوا بها قد آمنوا وحسن إسلامهم وحظوا برضا الله ورضوانه.

تفسير الشعراوي 1419 هـ :

والمسألة الرابعة في توبيخ الله لهم: {أم يقولون به جنة} يعني: جنون، والجنون أن تتعطل الآلة العقلية التي تزن الحركات على وفق النفع والضر، فتفعل الخير النافع، وتترك الشر الضار. ولننظر: أي خصلة من خصال الجنون في محمد (ص). ودعك من قضية الدين والإله إنما خذ خلقه، والخلق أمر يتفق عليه الجميع ويحمدونه، حتى وإن كانوا ضد صفته، فالكذاب يحب الصادق، ويعترف أن الصدق شرف وكرامة، والبخيل يحب الكريم، والغضوب يحب الحليم، ألا ترى الكاذب يزاول كذبه على الناس، لكن لا يحب من يكذب عليه؟. ألا ترى شاهد الزور ينقذ غيره بشهادته، ومع ذلك يسقط من نظره ويحتقره، حتى إن أهل الحكمة ليقولون: إن شاهد الزور ترتفع رأسك على الخصم بشهادته، وتدوس قدمك على كرامته، ومن جعلك موضعا للنقيصة فقد سقطت من نظره، وإن أعنته على أمره. إذن: فالأخلاق مقاييسها واحدة، فقيسوا محمدا بأخلاقه، لا بالدين والرسالة التي جاء بها، انظروا إلى خلقه فيكم، ولن يستطيع واحد منكم أن يتهمه في خلقه بشيء، وما دام لا يتهم في خلقه فلا يتهم كذلك في عقله، لأن العقل هو ميزان الخلق وأساسه. لذلك يقول ربه- عز وجل- في حقه: {ن والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك لأجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4) [القلم]: فخلقك العظيم أكبر دليل على أنك لست مجنونا. إذن: محمد برئ من هذه التهمة، والمسألة كلها كما قال تعالى: {بل جاءهم بالحق} فهذا عيبه في نظرهم، لأن الحق يغيظ أهل الباطل المنتفعين منه، والبعض يرى الحق في الخير الذي يأتيه، فإن كان في شيء لا ينتفع منه فهو شر، لذلك إن أردت أن تحكم على خصلة فاحكم عليها وهي عليك، لا وهي لك، فمثلا أن تكره الكاذب سواء كذب لك أو كذب عليك، إذن: فخذ المسائل على أنها لك وعليك...

ويقول تعالى بعدها: {وأكثرهم للحق كارهون} وطبيعي أن يكره أهل الباطل الذين استشرى ظلمهم وطغيانهم، يكرهون الحق الذي جاء ليعدل الميزان، ويقوم المعوج في حركة الحياة، وكراهية أهل الباطل لرسول الله كان ينبغي أن تكون معيار تصديق له لا تكذيب به، ينبغي أن نقول: طالما أن أهل الباطل يكرهون هذا فلا بد أنه على الحق وإلا ما كرهوه.

تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :

{أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} فهل عقلوا معنى هذا القول؟ وهل درسوا عقله وفكره وكلامه وسلوكه ودعوته، فرأوا اختلالاً في توازن شخصيته، ليكون لهذا القول مبرراً في الواقع؟ طبعاً لا، فليس للقول بجنونه أي مبرر، لأنه يمثل كل القوّة والثبات والتوازن في كل عناصر شخصيته، ولكن للمسألة سبباً آخر، هو عقدتهم من مسألة الحق، والعقلية العنيدة الجامدة التي يملكونها والتي لا تواجه الرأي الآخر في مرتكزاته الفكرية، أو لا تواجه الطروحات الجديدة الداعية إلى التغيير بروحية البحث عن الحقائق الجديدة التي يفرضها تغير الواقع وتغير معطياته، لأنهم ليسوا مستعدين لتغيير عاداتهم وتقاليدهم وموروثاتهم العقيدية، تحت تأثير أيّ وضع، حتى لو كان الحق واضحاً فيه.. إنه التعصّب للباطل المتحجّر في حياتهم، الذي يجعلهم يكرهون الحقّ من موقع هذا التعقيد الشعوري، لا من موقع عدم القناعة به. ما جاء به الرسول هو الحقّ {بَلْ جَآءَهُمْ بِالْحَقِّ} الواضح المرتكز على الحجّة والبرهان {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} لأنهم يريدون تأسيس حياتهم على الأهواء والشهوات والأطماع التي تلتقي بالباطل من أقرب طريق، وليسوا مستعدين لترك ذلك كله، والالتزام بالخط المستقيم الذي قد يتعب أوضاعهم التي اعتادوها، ويمنع عنهم ما حصلوا عليه من امتيازات.