معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (41)

قوله تعالى : { وقال اركبوا فيها } ، أي : وقال لهم نوح اركبوا فيها أي في السفينة ، { بسم الله مجريها ومرساها } ، قرأ حمزة والكسائي وحفص ، : " مجريها " بفتح الميم أي : جريها { ومرساها } بضمها ، وقرأ محمد بن محيصن مجريها ومرساها بفتح الميمين من جرت ورست ، أي : بسم الله جريها ورسوها ، وهما مصدران . وقرأ الآخرون : مجراها ومرساها بضم الميم من أجريت وأرسيت ، أي : بسم الله إجراؤها وإرساؤها وهما أيضا مصدران ، كقوله : { أنزلني منزلاً مباركاً } [ المؤمنون-29 ] و{ أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق } [ الإسراء-80 ] والمراد هنا : الإنزال والإدخال والإخراج .

قوله تعالى : { إن ربي لغفور رحيم } ، قال الضحاك : كان نوح إذا أراد أن تجري السفينة قال : بسم الله ، فجرت ، وإذا أراد أن ترسو قال : بسم الله ، فرست .

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (41)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنّ رَبّي لَغَفُورٌ رّحِيمٌ } .

يقول تعالى ذكره : وقال نوح : اركبوا في الفلك بسم الله مَجراها ومُرْساها . وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه ، وهو قوله : قُلْنا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلَ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وأهْلَكَ إلاّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ القَوْلُ مْنهُمْ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إلاّ قَلِيلٌ فحملهم نوح فيها وقال لهم : اركبوا فيها . فاستغني بدلالة قوله : وَقالَ ارْكَبُوا فِيها عن حمله إياهم فيها ، فترك ذكره .

واختلفت القراء في قراءة قوله : بسْمِ اللّهِ مَجْرَاها وَمُرْساها فقرأته عامة قرّاء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين : «بِسْمِ اللّهِ مُجْرَاها ومُرْساها » بضمّ الميم في الحرفين كليهما . وإذا قرىء كذلك كان من أجرى وأرسى ، وكان فيه وجهان من الإعراب : أحدهما الرفع بمعنى : بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، فيكون المُجْرى والمُرْسَى مرفوعين حينئذ بالباء التي في قوله : بِسْمِ اللّهِ . والاَخر بالنصب ، بمعنى : بسم الله عند إجرائها وإرسائها ، أو وقت إجرائها وإرسائها ، فيكون قوله : «بسم الله » كلاما مكتفيا بنفسه ، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله : بسم الله ، ثم يكون المُجْرى والمُرسَى منصوبين على ما نصبت العرب قولهم الحمد لله سرارك وإهلالَك ، يعنون الهلال أوّله وآخره ، كأنهم قالوا : الحمد لله أوّل الهلال وآخره ، ومسموع منهم أيضا : الحمد لله ما إهلالُك إلى سرارك . وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفيين : بسْمِ اللّهِ مَجْرَاها وَمُرْساها بفتح الميم من «مَجْراها » ، وضمها من «مُرْساها » ، فجعلوا «مجراها » مصدرا من جري يجري مَجْرًى ، ومُرساها من أرسَى يُرْسِي إرساءً . وإذا قرىء ذلك كذلك كان في إعرابهما من الوجهين نحو الذي فيهما إذا قرئا : «مُجراها ومُرساها » بضم الميم فيهما على ما بيّنت .

ورُوي عن أبي رجاء العُطاردي أنه كان يقرأ ذلك : «بِسمِ اللّهِ مَجْرِيها وَمُرْسِيها » بضمّ الميم فيهما ، ويصيرهما نعتا لله . وإذا قرئا كذلك ، كان فيهما أيضا وجهان من الإعراب ، غير أن أحدهما الخفض وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب لأن معنى الكلام على هذه القراءة : بسم الله مُجْرِي الفلك ومُرسِيها ، فالمُجْرَى نعت لاسم الله . وقد يحتمل أن يكون نصبا ، وهو الوجه الثاني ، لأنه يحسن دخول الألف واللام في المُجِري والمُرْسِي ، كقولك بسم الله المُجْريها والمُرْسِيها ، وإذا حذفتا نصبتا على الحال ، إذ كان فيهما معنى النكرة ، وإن كانا مضافين إلى المعرفة . وقد ذُكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك : «مَجْراها ومَرْساها » ، بفتح الميم فيهما جميعا ، مِنْ جَرَى ورَسَا كأنه وجهه إلى أنه في حال جريها وحال رسوها ، وجعل كلتا الصفتين للفُلْك كما قال عنترة :

فَصَبَرْتُ نَفْسا عِنْدَ ذلكَ حُرّةً *** تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطَلّعُ

والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ : بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاها بفتح الميم وَمُرْساها بضم الميم ، بمعنى : بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسِي . وإنما اخترت الفتح في ميم «مَجْراها » لقرب ذلك من قوله : وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجِبالِ ولم يقل : تُجْرَى بهم . ومن قرأ : «بِسْمِ اللّهِ مُجْراها » كان الصواب على قراءته أن يقرأ : وهي تُجْرَي بهم . وفي إجماعهم على قراءة «تجري » بفتح التاء دليل واضح على أن الوجه في «مَجراها » فتح الميم . وإنما اخترنا الضم في «مُرساها » لإجماع الحجة من القرّاء على ضمها . ومعنى قوله مَجْراها مسيرها وَمُرْساها وَقْفها ، من وقفها الله وأرساها . وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في الحرفين جميعا .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد . قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الله ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «بسْمِ اللّهِ مُجْرَاها وَمُرْساها » قال : حين يركبون ويُجْرُون ويُرْسُون .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا ابن نمير ، عن ورقاء ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : «بسْمِ اللّهِ مُجْرَاها وَمُرْساها » قال : بسم الله حين يُجْرون وحين يُرْسون .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا جابر بن نوح ، قال : حدثنا أبو رَوْق ، عن الضحاك ، في قوله : «ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللّهِ مُجْرَاها وَمُرْساها » قال : إذا أراد أن ترسي قال : بسم الله فأرست ، وإذا أراد أن تجري قال بسم الله فجرت .

وقوله : إنّ رَبي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ يقول : إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه رحيم بهم أن يعذّبهم بعد التوبة .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (41)

المعنى { وقال } نوح - حين أمر بالحمل في السفينة - لمن آمن معه : { اركبوا فيها } ؛ فأنث الضمير ، إذ هي سفينة لأن الفلك المذكور مذكر .

وفي مصحف أبيّ «على اسم الله » . وقوله : { بسم الله } يصح أن يكون في موضع الحال من الضمير الذي في قوله : { اركبوا } كما تقول : خرج زيد بثيابه وبسلاحه ، أي اركبوا متبركين بالله تعالى ، ويكون قوله : { مجراها ومرساها } ظرفين ، أي وقت إجرائها وإرسائها . كما تقول العرب : الحمد لله سرارك وإهلالك{[6344]} وخفوق النجم ومقدم الحاج ، فهذه ظرفية زمان ، والعامل في هذا الظرف ما في { بسم الله } من معنى الفعل ، ويصح أن يكون قوله : { بسم الله } في موضع خبر و { مجراها ومرساها } ابتداء مصدران كأنه قال : اركبوا فيها فإن ببركة الله إجراءها وإرساءها ، وتكون هذه الجملة - على هذا - في موضع حال من الضمير في قوله { فيها } ، ولا يصح أن يكون حالاً من الضمير في قوله : { اركبوا } لأنه لا عائد في الجملة يعود عليه : وعلى هذا التأويل قال الضحاك : إن نوحاً كان إذا أراد جري السفينة قال : { بسم الله } ، فتجري وإذا أراد وقوفها قال : { بسم الله } فتقف .

وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم - في رواية أبي بكر وابن عامر : «مُجراها ومُرساها » بضم الميمين على معنى إجرائها وإرسائهما ، وهي قراءة مجاهد وأبي رجاء والحسن والأعرج وشيبة وجمهور الناس ، ومن ذلك قول لبيد : [ الكامل ] .

وعمرت حرساً قبل مجرى داحس*** لو كان للنفس اللجوج خلود{[6345]}

وقرأ حمزة والكسائي وحفص بن عاصم : «مَجراها » بفتح الميم وكسر الراء ، وكلهم{[6346]} ضم الميم من «مُرساها » وقرأ الأعمش وابن مسعود «مَجراها ومَرساها » بفتح الميمين ، وذلك من الجري والرسو ؛ وهذه ظرفية مكان ، ومن ذلك قول عنترة : [ الكامل ]

فصبرت نفساً عند ذلك حرة*** ترسو إذا نفس الجبان تطلع{[6347]}

واختار الطبري قراءة «مَجريها وُمرساها » بفتح الميم الأولى وضم الثانية ، ورجحها بقوله تعالى : { وهي تجري } ، ولم يقرأ أحد ، «تجري » وهي قراءة ابن مسعود أيضاً رواها عنه أبو وائل ومسروق . وقرأ ابن وثاب وأبو رجاء العطاردي والنخعي والجحدري والكلبي والضحاك بن مزاحم ومسلم بن جندب وأهل الشام : «مجريها ومرسيها » وهما على هذه القراءة صفتان لله تعالى عائدتان على ذكره في قوله { بسم الله }{[6344]} .

وقوله { إن ربي لغفور رحيم } تنبيه لهم على قدر نعم الله عليهم ورحمته لهم وستره عليهم وغفرانه ذنوبهم بتوبتهم وإنابتهم .


[6344]:- السّرار بالفتح والكسر: وسرار الشهر: آخر ليلة فيه. (القاموس والمعجم الوسيط). وفي التاج عن الأزهري أن الكسر لغة ليست بجيدة. وأهل الشهر: ظهر هلاله، وأهلّ فلان: رفع صوته وصاح، ويقال: أهلّ الصبي، وأهلّ الملبّي، وغيرها.
[6345]:- البيت من قصيدة للبيد يتحدث فيها عن طول عمره وسأمه من الحياة، ويتحدث عن مآثره، وقبله البيت المشهور: ولقد سئمت من الحياة وطولها وسؤال هذا الناس كيف لبيد والبيت في الديوان: "وغنيت سبتا"، ويروى: و"غنيت حرسا"، ويروى: "بعد مُجرى". "وعمرت وغنيت" معناهما: عشت. ومُجرى: إجراء، وداحس والغبراء: فرسان جرّ الرهان عليهما إلى الحرب المشهورة بين عبس وذبيان في أواسط القرن السادس الميلادي، والسبّت والحرس بمعنى: الدهر، وقدرهما قوم بعدد من السنين، ولكن المقصود الحقيقي محض حقبة طويلة من الزمن.
[6346]:- يريد الثلاثة: حمزة، والكسائي، وحفصا في قراته عن عاصم.
[6347]:- البيت في "اللسان"، ذكره بعد قوله: "ولو حبس رجل نفسه على شيء يريده قال: "صبرت نفسي"، قال عنترة يذكر حربا كان فيها: فصبرت عارفة لذلك حرّة.." وبهذه الرواية جاء البيت في شعر عنترة كما قال أبو عبيد، ومعنى "صبرت عارفة": حبست نفسا عارفة أي: صابرة، تصبر للشدائد ولا تنكرها، وترسو: تثبت وتستقر ولا تتطلع إلى الخلق جُبنا وفزعا كما تتطلع نفس الجبان. والشاهد في البيت أن (مرساها) تكون من الفعل: رسا يرسو.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{۞وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (41)

عطف على جملة { قلنا احمل فيها } [ هود : 40 ] أي قلنا له ذلك . وقال نوح عليه السّلام لمن أمر بحمله { اركبوا } .

وضمير { فيها } لمفهوم من المقام ، أي السفينة كقوله : { وحملناه على ذَات ألواحٍ ودُسرٍ } [ القمر : 13 ] أي سفينة .

وعدّي فعل { اركبوا } ب ( فيّ ) جرياً على الفصيح فإنه يقال : رَكب الدابة إذا علاها . وأما ركوب الفلك فيعدّى ب ( في ) لأن إطلاق الركوب عليه مجاز ، وإنما هو جلوس واستقرار فلا يقال : ركب السفينةَ ، فأرادوا التفرقة بين الركوب الحقيقي والركوب المشابه له ، وهي تفرقة حسنة .

والباء في { باسم الله } للملابسة مثل ما تقدم في تفسير البسملة ، وهي في موضع الحال من ضمير { اركبوا } أي ملابسين لاسم الله ، وهي ملابسة القول لقائله ، أي قائلين : باسم الله .

و { مجراها ومرساها } بضم الميمين فيهما في قراءة الجمهور . وهما مصدراً ، أجرى السفينة إذا جعلها جارية ، أي سيّرها بسرعة ، وأرساها إذا جعلها راسية ، أي واقفة على الشاطىء . يقال : رَما إذا ثَبت في المكان .

وقرأ حمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وخلَفٌ « مَجراها » فقط بفتح الميم على أنه مَفعل للمصدر أو الزمان أو المكان . وأما { مُرساها } فبضم الميم مثل الجمهور ، لأنه لا يقال : مَرساها بفتح الميم . والعدول عن الفتح في { مرساها } في كلام العرب مع أنه في القياس مماثل ( مَجراها ) وجهه دفع اللبس لئلا يلتبس باسم المَرسى الذي هو المكان المعدّ لرسوّ السفن .

ويَجوز أن يكون { مجراها ومرساها } في محل نصب بالنيابة عن ظرف الزمان ، أي وقت إجرائها ووقت إرسائها . ويجوز أن يكون في محل رفع على الفاعلية بالجار والمجرور لما فيه من معنى الفعل ، وهو رأي نحاة الكوفة ، وما هو ببعيد .

وجملة { إن ربي لغفور رحيم } تعليل للأمر بالركوب المقيد بالملابسة لذكر اسم الله تعالى ، ففي التعليل بالمغفرة والرحمة رمز إلى أن الله وعَده بنجاتهم ، وذلك من غفرانه ورحمته . وأكّد ب { إنّ } ولام الابتداء تحقيقاً لأتباعه بأن الله رحمهم بالإنجاء من الغرق .