الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{۞وَقَالَ ٱرۡكَبُواْ فِيهَا بِسۡمِ ٱللَّهِ مَجۡرٜىٰهَا وَمُرۡسَىٰهَآۚ إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٞ رَّحِيمٞ} (41)

قوله تعالى : " وقال اركبوا فيها " أمر بالركوب ، ويحتمل أن يكون من الله تعالى ، ويحتمل أن يكون من نوح لقومه . والركوب العلو على ظهر الشيء . ويقال : ركبه الدين . وفي الكلام حذف ، أي اركبوا الماء في السفينة . وقيل : المعنى اركبوها . و " في " للتأكيد كقوله تعالى : " إن كنتم للرؤيا تعبرون{[8691]} " [ يوسف : 43 ] وفائدة " في " أنهم أمروا أن يكونوا في جوفها لا على ظهرها . قال عكرمة : ركب نوح عليه السلام في الفلك لعشر خلون من رجب ، واستوت على الجودي لعشر خلون من المحرم ، فذلك ستة أشهر ، وقاله قتادة وزاد : وهو يوم عاشوراء ، فقال لمن كان معه : من كان صائما فليتم صومه ، ومن لم يكن صائما فليصمه . وذكر الطبري في هذا حديثا عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أن نوحا ركب في السفينة أول يوم من رجب ، وصام الشهر أجمع ، وجرت بهم السفينة إلى يوم عاشوراء ، ففيه أرست على الجودي ، فصامه نوح ومن معه ) . وذكر الطبري عن ابن إسحاق ما يقتضي أنه أقام على الماء نحو السنة ، ومرت بالبيت فطافت به سبعا ، وقد رفعه الله عن الغرق فلم ينله غرق ، ثم مضت إلى اليمن ورجعت إلى الجودي فاستوت عليه .

قوله تعالى : " بسم الله مُجراها ومُرساها " قراءة أهل الحرمين وأهل البصرة بضم الميم فيهما إلا من شذ ، على معنى بسم الله إجراؤها وإرساؤها ، فمجراها ومرساها في موضع رفع بالابتداء ، ويجوز أن تكون في موضع نصب ، ويكون التقدير : بسم الله وقت إجرائها ثم حذف وقت ، وأقيم " مجراها " مقامه . وقرأ الأعمش وحمزة والكسائي : " بسم الله مَجريها " بفتح الميم و " مُرساها " بضم الميم . وروى يحيى بن عيسى عن الأعمش عن يحيى بن وثاب " بسم الله مَجراها ومَرساها " بفتح الميم فيهما على المصدر من جرت تجري جريا ومجرى ، ورست رسوا ومرسى إذا ثبتت . وقرأ مجاهد وسليمان بن جندب وعاصم الجحدري وأبو رجاء العطاردي : " بسم الله مُجريها ومُرسيها " نعت لله عز وجل في موضع جر . ويجوز أن يكون في موضع رفع على إضمار مبتدأ ، أي هو مجريها ومرسيها . ويجوز النصب على الحال . وقال الضحاك . كان نوح عليه السلام إذا قال بسم الله مجراها جرت ، وإذا قال بسم الله مرساها رست . وروى مروان بن سالم عن طلحة بن عبد الله بن كريز عن الحسين بن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( أمان لأمتي من الغرق إذا ركبوا في الفلك بسم الله الرحمن الرحيم " وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون{[8692]} " [ الزمر : 67 ] " بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم " . وفي هذه الآية دليل ، على ذكر البسملة عند ابتداء كل فعل ، كما{[8693]} بيناه في البسملة{[8694]} ، والحمد لله .

قوله تعالى : " إن ربي لغفور رحيم " أي لأهل السفينة . وروي عن ابن عباس قال : ( لما كثرت الأرواث والأقذار أوحى الله إلى نوح اغمز ذنب الفيل ، فوقع منه خنزير وخنزيرة فأقبلا على الروث ، فقال نوح : لو غمزت ذنب هذا الخنزير ! ففعل ، فخرج منه فأر وفأرة ، فلما وقعا أقبلا على السفينة وحبالها تقرضها ، وتقرض الأمتعة والأزواد حتى خافوا عل حبال السفينة ، فأوحى الله إلى نوح أن امسح جبهة الأسد فمسحها ، فخرج منها سنوران ، فأكلا الفئرة . ولما حمل الأسد في السفينة قال : يا رب من أين أطعمه ؟ قال : سوف أشغله ، فأخذته الحُمَّى ، فهو الدهرَ محموم . قال ابن عباس : ( وأول ما حمل نوح من البهائم في الفلك حمل الإوزة ، وآخر ما حمل حملَ الحمار ) ، قال : وتعلق إبليس بذنبه ، ويداه قد دخلتا في السفينة ، ورجلاه خارجة بعد ، فجعل الحمار يضطرب ولا يستطيع أن يدخل ، فصاح به نوح : ادخل ويلك فجعل يضطرب ، فقال : ادخل ويلك وإن كان معك الشيطان ، كلمة زلت على لسانه ، فدخل ووثب الشيطان فدخل . ثم إن نوحا رآه يغني في السفينة ، فقال له : يا لعين ما أدخلك بيتي ؟ قال : أنت أذنت لي ، فذكر له ، فقال له : قم فاخرج . قال : مالك بد في أن تحملني معك ، فكان فيما يزعمون في ظهر الفلك . وكان مع نوح عليه السلام خرزتان مضيئتان ، واحدة مكان الشمس ، والأخرى مكان القمر . ابن عباس : ( إحداهما بيضاء كبياض النهار ، والأخرى سوداء كسواد الليل ) ، فكان يعرف بهما مواقيت الصلاة ، فإذا أمسوا غلب سواد هذه بياض هذه ، وإذا أصبحوا غلب بياض هذه سواد هذه ، على قدر الساعات .


[8691]:راجع ص 198 فما بعد من هذا الجزء.
[8692]:راجع ج 15 ص 277.
[8693]:في ع و و: على ما.
[8694]:راجع ج 1 ص 97.