القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمّن ذُكّرَ بِآيَاتِ رَبّهِ ثُمّ أَعْرَضَ عَنْهَآ إِنّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : وأيّ الناس أظلم لنفسه ممن وعظه الله بحججه ، وآي كتابه ورسله ، ثم أعرض عن ذلك كله ، فلم يتعظ بمواعظه ، ولكنه استكبر عنها .
وقوله إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ يقول : إنا من الذين اكتسبوا الاَثام ، واجترحوا السيئات منتقمون .
وكان بعضهم يقول : عنى بالمجرمين في هذا الموضع : أهل القدر . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، قال : أخبرنا وائل بن داود ، عن مروان بن سفيح ، عن يزيد بن رفيع ، قال : إن قول الله في القرآن إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ هم أصحاب القدر ، ثم قرأ إنّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ . . . إلى قوله خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ .
حدثنا الحسن بن عرفة ، قال : حدثنا مروان ، قال : أخبرنا وائل بن داود ، عن ابن سفيح ، عن يزيد بن رفيع بنحوه ، إلاّ أنه قال في حديثه : ثم قرأ وائل بن داود هؤلاء الاَيات إنّ المُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وسُعُرٍ . . . إلى آخر الاَيات .
حدثني به عمران بن بكار الكلاعي ، قال : حدثنا محمد بن المبارك ، قال : حدثنا إسماعيل بن عياش ، قال : حدثنا عبد العزيز بن عبيد الله ، عن عبادة بن نسيّ ، عن جنادة بن أبي أُميّة ، عن معاذ بن جبل ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «ثَلاثٌ مَنْ فَعَلَهُنّ فَقَدْ أجْرَمَ : مَنِ اعْتَقَدَ لِوَاءً فِي غيرِ حَقّ ، أوْ عَقّ وَالِدَيْهِ ، أوْ مَشَى مَعَ ظالِمٍ يَنْصُرُهُ فَقَدْ أجْرَمَ . يَقُولُ اللّهُ : إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ » .
ثم قال تعالى : { ومن أظلم } على جهة التعجب ، والتقدير أي لا أحد أظلم ممن هذه صفته ، وهي بخلاف ما تقدم في صفة المؤمنين من أنهم إذا ذكروا بآيات الله خروا سجداً ، ثم توعد تعالى { المجرمين } وهم المتجاسرون على ركوب الكفر والمعاصي بالنقمة ، وظاهر الإجرام هنا أنه الكفر ، وحكى الطبري عن يزيد بن رفيع أنه قال : إن قول الله تعالى في القرآن { إنا من المجرمين منتقمون } إنا هو في أهل القدر .
قال الفقيه الإمام القاضي : يريد القائلين بأن الأمر أنف ، وأن أفعال العبد من قبله ، قال ثم قرأ يزيد بن رفيع { إن المجرمين في ضلال وسعر يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر }{[9434]} [ القمر 47 - 49 ] .
قال الفقيه الإمام القاضي : في هذا المنزع من البعد ما لا خفاء به ، وروى معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : «ثلاث من فعلهن فقد أجرم ، من عقد لواء في غير حق ، ومن عق والديه ، ومن نصر ظالماً »{[9435]} .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ومن أظلم}: فلا أحد أظلم {ممن ذكر بآيات ربه}: ممن وعظ بآيات القرآن.
{إنا من المجرمين منتقمون} كفار مكة نزلت في المطعمين والمستهزئين من قريش، انتقم الله عز وجل منهم بالقتل ببدر، وضربت الملائكة الوجوه والأدبار، وتعجيل أرواحهم إلى النار.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأيّ الناس أظلم لنفسه ممن وعظه الله بحججه، وآي كتابه ورسله، ثم أعرض عن ذلك كله، فلم يتعظ بمواعظه، ولكنه استكبر عنها.
وقوله:"إنّا مِنَ المُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ" يقول: إنا من الذين اكتسبوا الآثام، واجترحوا السيئات منتقمون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ممن ذكر بآيات ربه} ووقع له المعرفة والعلم أنها آيات ربه.
{ثم أعرض عنها} بعد ما عرفها، وعلم بها.
{إنا من المجرمين منتقمون} جرمهم ههنا جرم كفر؛ ينتقم منهم انتقام الكفر والتكذيب.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
إذا نُبِّهَ العبدُ بأنواع الزَّجر، وحُرِّكَ -لتَرْكِهِ حدودَ الرقاق- بصنوفٍ من التأديب ثم لم يرتدع عن فعله، واغترّ بطول سلامته، وأمِنَ من هواجم مَكره، وخفايا سِرِّه.. أَخَذَه بغتةً بحيث لا يجد خرجةً من أخذته، قال تعالى: {لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُم مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} [المؤمنون: 65].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أنّ الإعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وإنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل.
لنذيقنهم ولا يرجعون فيكونون قد ذكروا بآيات الله من النعم أولا، والنقم ثانيا،ولم يؤمنوا فلا أظلم منهم أحد، لأن من يكفر بالله ظالم؛ فإن الله لذوي البصائر ظاهر لا يحتاج المستنير الباطن إلى شاهد يشهد عليه بل هو شهيد على كل شيء كما قال تعالى: {أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}.
{إنا من المجرمين منتقمون} أي لما لم ينفعهم العذاب الأدنى فأنا منتقم منهم بالعذاب الأكبر.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
{ثم أعرض عنها} فلم يتفكر فيها، و {ثم} لاستبعاد الإعراض عنها مع فرض وضوحها وإرشادها إلى أسباب السعادة بعد التذكير بها عقلا.
{إنا من المجرمين منتقمون} فكيف ممن كان أظلم من كل ظالم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{بآيات ربه} أي الذي لا نعمة عنده إلا منه.
والجملة الاسمية تدل على دوام ذلك عليهم في الدنيا إما باطناً بالاستدراج بالنعم، وإما ظاهراً بإحلال النقم، وفي الآخرة بدوام العذاب على مر الآباد.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
{إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ} أي بالعذاب، وإظهار المتقين عليهم.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فأما إذا ذكروا بآيات ربهم فأعرضوا عنها وجاءهم العذاب الأدنى فلم يرجعوا ولم يعتبروا فإنهم إذن ظالمون... وإنهم إذن يستحقون الانتقام في الدنيا والآخرة: (إنا من المجرمين منتقمون).. وياهوله من تهديد. والجبار المتكبر هو الذي يتوعد هؤلاء الضعاف المساكين بالانتقام الرعيب!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة {إنما يؤمن بآياتنا الذين إذا ذُكِّروا بها} [السجدة: 15] إلى آخرها حيث اقتضت أن الذين قالوا: {أإذا ضللنا في الأرض إنا لفي خلق جديد} [السجدة: 10] ليسوا كأولئك فانتُقل إلى الإخبار عنهم بأنهم أشد الناس ظلماً لأنهم يُذَكِّرون بآيات الله حين يتلى عليهم القرآن فيعرضون عن تدبرها ويَلْغون فيها.
و {مَن} للاستفهام الإنكاري كقوله {ومن أظلم ممن مَنَع مساجدَ الله أن يذكر فيها اسمه} [البقرة: 114] أي: لا أظلم منه، أي لا أحَد أظلم منه لأنه ظلَم نفسه بحرمانها من التأمل فيما فيه نفعه، وظلَم الآيات بتعطيل نفعها في بعضِ مَن أريد انتفاعهم بها، وظَلَم الرسول عليه الصلاة والسلام بتكذيبه والإعراض عنه، وظَلَم حق ربه إذ لم يمتثل ما أراد منه.
وجملة {إنا من المجرمين منتقمون} مستأنفة استئنافاً بيانياً ناشئاً عن تفظيع ظلم الذي ذُكِّر بآيات ربِّه فأعرض عنها لأن السامع يترقب جزاء ذلك الظالم.
والمراد بالمجرمين هؤلاء الظالمون، عدل عن ذكر ضميرهم لزيادة تسجيل فظاعة حالهم بأنهم مجرمون مَع أنهم ظالمون.
"ذُكِّرَ".. أي أن رسالات الله إلى خلقه ما هي إلا تذكير بعهد الإيمان القديم الذي أخذه الله على عباده حين قال سبحانه: {ألست بربكم} [الأعراف 172]؛ وسبق أن قلنا: إن في كل منّا ذرة شهدت هذا العهد، وعلى كل منا أن يحفظ إشراقات هذه الذرة في نفسه بأن يغذيها بالحلال، ويعودّها الطاعة لتبقى فيه إشراقات الإيمان.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
التعبير ب (ثمّ) في الآية، والذي يدلّ عادةً على التراخي، لعلّه إشارة إلى أنّ أمثال هؤلاء يُعطون فرصة ومجالا كافياً للتفكير والبحث، ولا تكون معاصيهم الابتدائية سبباً لانتقام الله أبداً، إلاّ أنّهم سيستحقّون انتقام الله عزّ وجلّ بعد انتهاء الفرصة اللازمة.