القول في تأويل قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنّا خَلَقْنَاهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الّذِيَ أَنشَأَهَآ أَوّلَ مَرّةٍ وَهُوَ بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } .
يقول تعالى ذكره : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ . واختُلف في الإنسان الذي عُني بقوله : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ فقال بعضهم : عُني به أُبّي بن خلف . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عُمارة ، قال : حدثنا عبيد الله بن موسى ، قال : حدثنا إسرائيل ، عن أبي يحيى عن مجاهد ، في قوله : مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قال : أُبيّ بن خَلَف أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعَظْم .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : وَضَرَبَ لنَا مَثَلاً أُبيّ بن خلف .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قالَ مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ : ذُكر لنا أن أُبيّ بن خلف ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل ، ففتّه ، ثم ذرّاه في الريح ، ثم قال : يا محمد من يحيي هذا وهو رميم ؟ قال : «الله يحييه ، ثم يميته ، ثم يُدخلك النار » قال : فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد .
وقال آخرون : بل عُني به : العاص بن وائل السّهميّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا أبو بشر ، عن سعيد بن جبير ، قال : جاء العاص بن وائل السهميّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظّم حائل ، ففتّه بين يديه ، فقال : يا محمد أيبعث الله هذا حيا بعد ما أرمّ ؟ قال : «نَعَمْ يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا ، ثُمّ يُمِتُكَ ثُمّ يُحْيِيكَ ، ثُم يُدْخِلُكَ نارَ جَهَنّم » قال : ونزلت الاَيات : أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فإذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ . . . » إلى آخر الاَية .
وقال آخرون : بل عُنِي به : عبد الله بن أُبيّ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس أوَ لَمْ يَرَ الإنْسانُ أنّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ . . . إلى قوله : وَهِيَ رَمِيمٌ قال : جاء عبد الله بن أُبيّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بعظْم حائل فكسره بيده ، ثم قال : يا محمد كيف يبعث الله هذا وهو رميم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يَبْعَثُ اللّهُ هَذَا ، ويُمِيتُكَ ثُمّ يُدْخِلُكَ جَهَنّمَ » ، فقال الله : قُلْ يُحْيِيها الّذِي أنشأها أوّلَ مَرّةٍ وَهُو بِكُلّ خَلْقٍ عَلِيمٌ .
فتأويل الكلام إذن : أو لم ير هذا الإنسان الذي يقول : مَنْ يُحْيِي العِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ أنا خلقناه من نطفة فسوّيناه خلقا سَوِيّا فإذَا هوَ خَصِيمٌ يقول : فإذا هو ذو خصومة لربه ، يخاصمه فيما قال له ربه إني فاعل ، وذلك إخبار لله إياه أنه مُحْيي خلقه بعد مماتهم ، فيقول : مَنْ يحيي هذه العظام وهي رميم ؟ إنكارا منه لقُدرة الله على إحيائها .
وقوله : مُبِينٌ يقول : يبين لمن سمع خُصومته وقيله ذلك أنه مخاصم ربه الذي خلقه .
{ أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين } تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر ، وفيه تقبيح بليغ لإنكاره حيث عجب منه وجعله إفراطا في الخصومة بينا ومنافاة لجحود القدرة على ما هو أهون مما عمله في بدء خلقه ، ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفا مكرما بالعقوق والتكذيب . روي " أن أبي بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بال يفتته بيده وقال : أترى الله يحيي هذا بعد ما رم ، فقال عليه الصلاة والسلام : نعم ويبعثك ويدخلك النار فنزلت . وقيل معنى { فإذا هو خصيم مبين } فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا مميز منطيق قادر على الخصام معرب عما في نفسه .
هذه الآية قال فيها ابن جبير : إنها نزلت بسبب أن المعاصي بن وائل السهمي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم ففته وقال : يا محمد من يحيي هذا ؟ وقال مجاهد وقتادة : إن الذي جاء بالعظم النخر أمية بن خلف ، وقاله الحسن ذكره الرماني ، وقال ابن عباس : الجائي بالعظم هو عبد الله بن أبي ابن سلول .
قال القاضي أبو محمد : وهو وهم ممن نسبه إلى ابن عباس لأن السورة والآية مكية بإجماع ولأن عبد الله بن أبي لم يجاهر قط هذه المجاهرة ، واسم أبي هو الذي خلط على الرواة ، لأن الصحيح هو ما رواه ابن وهب عن مالك ، وقاله ابن إسحاق وغيره ، من أن أبي بن خلف أخا أمية بن خلف هو الذي جاء بالعظم الرميم بمكة ففته في وجه النبي صلى الله عليه وسلم وحياله ، وقال من يحيى هذا يا محمد ؟ ولأبي مع النبي صلى الله عليه وسلم مقامات ومقالات إلى أن قتله يوم أحد بيده بالحربة بجرح في عنقه ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي حين فت العظم «الله يحييه ويميتك ويحييك ويدخلك جهنم »{[9821]} ثم نزلت الآية مبينة ومقيمة للحجة في أن الإنسان نطفة ثم يكون بعد ذلك خصيماً مبيناً هل هذا إلا إحياء بعد موت وعدم حياة ، وقوله { ونسي } يحتمل أن يكون نسيان الذهول ويحتمل أن يكون نسيان الترك ، و «الرميم » البالي المتفتت ، وهو الرفات .
لما أُبطلت شبه المشركين في إشراكهم بعبادة الله وإحالتهم قدرته على البعث وتكذيبهم محمداً صلى الله عليه وسلم في إنبائه بذلك إبطالاً كليّاً ، عطف الكلام إلى جانب تسفيه أقوال جزئية لزعماء المكذبين بالبعث توبيخاً لهم على وقاحتهم وكفرهم بنعمة ربهم وهم رجال من أهل مكة أحسب أنهم كانوا يموهون الدلائل ويزينون الجدال للناس ويأتون لهم بأقوال إقناعية جارية على وفق أفهام العامة ، فقيل أريد ب { الإِنسان } أُبيّ بن خلف . وقيل أريد به العاصي بنُ وائل ، وقيل أبو جهل ، وفي ذلك روايات بأسانيد ، ولعل ذلك تكرر مرات تولى كلُّ واحد من هؤلاء بعضها .
قالوا في الروايات : جاء أحد هؤلاء الثلاثة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده عَظْم إنسان رميم ففتّه وذرَاه في الريح وقال : يا محمد أتزعم أن الله يُحيي هذا بعد ما أَرَمَّ ( أي بَلِيَ ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم يميتك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم .
فالتعريف في { الإنْسانُ } تعريف العهد وهو الإِنسان المعيّن المعروف بهذه المقالة يومئذٍ . وقد تقدم في سورة مريم ( 66 ) أن قوله تعالى : { ويقول الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حياً } نزل في أحدِ هؤلاء ، وذُكر معهم الوليد بن المغيرة . ونظير هذه الآية قوله تعالى : { أيحسب الإنسان أن لن نجمع عظامه } في سورة القيامة } ( 3 ) .
ووجه حمل التعريف هنا على التعريف العهدي أنه لا يستقيم حملها على غير ذلك لأن جعله للجنس يقتضي أن جنس الإِنسان ينكرون البعث ، كيف وفيهم المؤمنون وأهلُ الملل ، وحملها على الاستغراق أبعد إلا أن يراد الاستغراق العُرفي وليس مثل هذا المقام من مواقعه . فأما قوله تعالى في سورة النحل ( 4 ) { : { خلق الإنسان من نطفة فإذا هو خصيم مبين } فهو تعريف الاستغراق ، أي خلق كلَّ إنسان لأن المقام مقام الاستغراق الحقيقي .
والمراد بخَصِيمٌ في تلك الآية : أنه شديد الشكيمة بعد أن كان أصله نطفة ، فالجملة معطوفة على جملة { أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم } [ يس : 71 ] الآية . والاستفهام كالاستفهام في الجملة المعطوفِ عليها . والرؤية هنا قلبية . وجملة { أَنَّا خَلَقْناهُ } سادّة مسدّ المفعولين كما تقدم في قوله تعالى : { أو لم يروا أنَّا خلقنا لهم مما عَمِلت أيدينا أنْعاماً } [ يس : 71 ] .
و« إذا » للمفاجأة . ووجه المفاجأة أن ذلك الإِنسان خلق ليعبد الله ويعلم ما يليق به فإذا لم يجر على ذلك فكأنه فاجأ بما لم يكن مترقباً منه مع إفادة أن الخصومة في شؤون الإِلهية كانت بما بادرَ به حين عقَل .