معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

قوله تعالى : { فما كان دعواهم } ، أي : قولهم ودعاؤهم ، وتضرعهم ، والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء ، قال سيبويه : تقول العرب : اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم .

قوله تعالى : { إذ جاءهم بأسنا } ، عذابنا .

قوله تعالى : إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } ، معناه لم يقدروا على رد العذاب ، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع الاعتراف .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

فما كان منهم عندما باغتهم العذاب في وقت اطمئنانهم وراحتهم إلى أن اعترفوا بذنوبهم وقالوا على سبيل التحسر والندم وطمعا في الخلاص : إنا كنا ظالمين .

فهاتان الآيتان الكريمتان توضحان بأجلى بيان أن هلاك الأمم سببه بغيها وفسادها وانحرافها عن الطريق المستقيم ، وتلك سنة الله التي لا تختلف في أى زمان أو مكان . وأن الظالمين عندما يفاجأون بالعقوبة يتحسرون ولا يستطيعون إنكار ما ارتكبوه من جرائم ومنكرات ولكن ذلك لن ينفعهم لأن ندمهم وتحسرهم قد فات وقته ، وكان الأجدر بهم أن يتوبموا من ذنوبهم عندما جاءتهم النذر ، وقبل حلول العذاب .

ولذا قال ابن كثير : قال ابن جرير : في هذه الآية الدالالة الواضحة في صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ما هلك قوم حتى يعذروا عن أنفسهم " .

و { أَوْ } في قوله : { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } للتنويع ، أى أن بعضهم جاءهم عذابنا ليلا وبعضهم جاءهم نهاراً عند استراحتهم . وإنما خص هذان الوقتان بنزول العذاب ، لأنهما وقتا غفلة ودعة واستراحة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأوجع .

ومن العبر التي نأخذها من هاتين الآيتين أن العاقل هو الذي يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهى ، ولا يأمن صفو الليالى ، ورخاء الأيام ، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء فإنه { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون }

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

وقوله تعالى : { فما كان دعواهم } الآية ، تبين في هذه الآية غاية البيان أن المراد في الآية قبلها أهل القرى ، والدعوى في كلام العرب لمعنيين ، أحدهما الدعاء قال الخليل : تقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه قوله عز وجل : { فما زالت تلك دعواهم } .

ومنه قول الشاعر [ الطويل ]

وإن مَذِلَتْ رجلي دعوتك أشتفي*** بدعواك من مذل بها فيهونُ

والثاني الادعاء ، فقال الطبري : هي في هذا الموضع بعنى الدعاء .

قال القاضي أبو محمد : ويتوجه أن يكون أيضاً بمعنى الادعاء ، لأن من ناله مكروه أو حزبه حادث فمن شأنه أن يدعو كما ذهب إليه المفسرون في فعل هؤلاء المذكورين في هذه الآية ، ومن شأنه أيضاً أن يدعي معاذير وأشياء تحسن حاله وتقيم حجته في زعمه ، فيتجه أن يكون هؤلاء بحال من يدعي معاذير ونحوها ، فأخبر الله عنهم أنهم لم تكن لهم دعوى ثم استثنى من غير الأول ، كأنه قال لم يكن دعاء أو ادعاء إلا الإقرار والاعتراف ، أي هذا كان بدل الدعاء أو الادعاء ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف ، ونحو من الآية قول الشاعر : [ الفرزدق ]

وقد شهدت قيس فما كان نصرها*** قتيبة إلا عضها بالأباهم

واعترافهم وقولهم { إنا كنا ظالمين } هو في المدة بين ظهور العذاب إلى إتيانه على أنفسهم ، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتسع لهذه المقالة وغيرها ، وروى ابن مسعود عن النبي عليه السلام أنه قال «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم » . وفسر عبد الملك بن ميسرة هذا الحديث بهذه الآية . و { دعواهم } خبر كان ، واسمها { إلا أن قالوا } وقيل بالعكس .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

قوله : { فما كان دعواهم } يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله : { فجاءها بأسنا } لأنّه من بقيّة المذكور ، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس .

والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله : [ يونس : 10 ] وهو كثير في القرآن ، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى .

ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي : انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى .

واقتصارهم على قولهم : { إنا كنا ظالمين } إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب ، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدّنيا مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في الحشر ، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب .

وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم ، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم .

والمراد بقولهم : { كنا ظالمين } أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرّسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله ، قال تعالى : { إنّ الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] أي أنّ الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم ، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم ، فيكون الكلام ، إقراراً مشوباً بحسرة وندامة ، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصّريح ومعناه الكنائي ، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازاً صريحاً .

وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن ، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد ، مثل الويل والثّبور ، فيكون الكلام مستعملاً في معناه المجازي ، أو يقوله بعضهم لبعض ، بينهم ، على معنى التّوبيخ ، والتّوقيف على الخطأ ، وإنشاء النّدامة ، فيكون مستعملاً في المعنى المجازي الصّريح ، والمعنى الكنائي ، على نحو ما قرّرتُه آنفاً .

والتّوكيد بإنّ لتحقيق للنّفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدّمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم ، أو بين جماعتهم ، جارياً مجرى التّعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنّهم جديرون به ، ولذلك أطلقوا على الشّرك حينئذ الاسم المشعر بمذمّته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل .

واسم كان هو : { أن قالوا } المفرغ له عمل كان ، و { دعواهم } خبر ( كان ) مقدّم ، لقرينة عدم اتّصال كان بتاء التّأنيث ، ولو كان : ( دعوى ) هو اسمها لكان اتّصالها بتاء التّأنيث أحسن ، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كلّ موضع جاء فيه المصدر المؤول من أنْ والفعل محصوراً بعد كان ، نحو قوله تعالى : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } [ الأعراف : 82 ] { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } [ آل عمران : 147 ] وغير ذلك ، وهو استعمال ملتزم ، غريب ، مطّرد في كلّ ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقّق أحدهما في تحقّق الآخر لأنّهما لمَّا اتّحدا في الماصْدق ، واستويا في التّعريف كان المحصور أولى باعتبار التّقدّم الرّتبي ، ويتعيّن تأخيره في اللّفظ ، لأنّ المحصور لا يكون إلاّ في آخر الجزأين ، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصورِ . واعلم أن كون أحد الجزأين محصوراً دون الآخر في مثل هذا ، ممّا الجزآن فيه متحدَا الماصْدق ، إنّما هو منوط باعتبار المتكلّم أحدهما هو الأصلَ والآخر الفرع ، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقّب من السّامع للقصّة ابتداء ، واعتبر الدّعاء هو المترقّب ثانياً ، كأنّ السّامع يسأل : ماذا قالوا لمَّا جاءهم البأس ، فقيل له : كان قولهم : { إنا كنا ظالمين } دعاءَهم ، فأفيد القول وزيد بأنّهم فرّطوا في الدّعاء ، وهذه نكتة دقيقة تنفعك في نظائر هذه الآية ، مثل قوله : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم } [ الأعراف : 82 ] ، على أنّه قد قيل : إنّه لاطِّراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من ( أن ) والفعل عِلَّة لفْظيّة : وهي كون المصدر المؤول يشبه الضّمير في أنّه لا يوصف ، فكان أعرف من غيره ، فلذلك كان حقيقاً بأن يكون هو الاسم ، لأنّ الأصل أنّ الاعرف من الجُزأين وهو الذي يكون مسنداً إليه .