اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

قوله تعالى : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } جوَّزُوا في " دَعْواهُم " وجهين :

أحدهما : أن يكون اسْماً ل " كان " ، و { إِلاَّ أَن قالوا } خبرها ، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جعل اسماً والأعْرَفُ جعل خبراً ، وقد تقدَّم ذلك في أوَّل الأنعام عند { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } [ الأنعام : 23 ] .

والثاني أن يكون " دَعْوَاهُم " خبراً مقدماً و { إِلاَّ أَن قالوا } اسماً مؤخراً كقوله : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا } [ النمل : 56 ] { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النار } [ الحشر : 17 ] ، و { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ } [ الجاثية : 25 ] ذكر ذلك الزَّمخشريُّ{[15760]} ومكيُّ بن أبِي طالبٍ ، وسبقهما إلى ذلك الفرَّاءُ{[15761]} والزَّجَّاجُ{[15762]} ، ولكن ذلك يشكل من قاعدة أخرى ذكرها النُّحاةُ ، وهو أنَّ الاسم والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهُمَا ؛ وجَبَ تَقْدِيمُ الاسمِ ، وتأخير الخبر نحو : كان موسى صاحبي ، وما كان دعائي إلاَّ أن اسْتَغْفَرْتُ ، قالوا : لأنهما كالمفعولِ والفاعلِ فمتى خَفِيَ الإعْرَابُ التزم كل في مَرْتَبَتِهِ ، وهذه الآيَةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذَلِكَ ، بل كيف يَخْتَارُهُ الزَّجَّاجُ ؟ وقد رأيتُ كلام الزَّجَّاجِ هنا فيمكن أن يُؤخَذَ منه جَوابٌ عن هذا المكانِ ، وذلك أنه قال : " إلاَّ أنَّ الاختيار إذا كانت " الدَّعْوَى " في موضع رفع أن يقول : فما كانت دَعْوَاهُم ، فَلَمَّا قال : " كَانَ دَعْوَاهُمْ " دلَّ على أن " الدَّعْوى " في موضع نصب ، غير أنه يجوز تَذْكِير الدعوى وإن كانت رفعاً ، فمن هنا يقال : تذكير الفعل فيه قرينة مرجَّحةٌ لإسنادِ الفِعْلِ إلى " أنْ قَالُوا " ، ولو كان مسنداً للدَّعْوَى لكان الأرجح " كَانَتْ " كما قال ، وهو قَرِيبٌ من قولك : " ضَرَبَتْ مُوسَى سَلْمَى " فقدمت المفعول بقرينةِ تأنِيثِ الفِعْلِ ، وأيضاً فإنَّ ثمَّ قَرينَةً أخرى ، وهي كَوْنُ الأعْرَفِ أحَقُّ أن يكون اسماً من غير الأعرف " .

والدَّعْوَى تكون بمعنى الدُّعَاءِ ، وبمعنى الادِّعَاءِ ، والمقْصُودُ بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً ، ويحتمل أيضاً أنْ تكونَ بمعنى الاعتراف ، فمن مَجِيئها بمعنى الدُّعَاءِ ما حَكَاهُ الخَلِيلُ : " اللَّهُمَّ أشْركْنا فِي صالح دعوى المُسلمين " يريد في صالح دُعَائِهِم ؛ وأنشدوا : [ الطويل ]

وإنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ اشْتَفِي *** بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَتَهُونُ{[15763]}

ومنه قوله تعالى : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } [ الأنبياء : 15 ] وقال الزَّمخشريُّ : [ ويجوز ] : فما كان استغاثتهم لا قولهم هذا ؛ لأنه لا يستغاثُ من اللَّهِ تعالى بغيره ، من قولهم : دعواهم يا لكعب .

وقال ابنُ عطيَّة{[15764]} : وتحتملُ الآيةُ أن يكون المعنى : فما آلت دَعَاويهم التي كانت في حال كُفْرِهِمْ إلا إلى الاعتراف ؛ كقول الشاعر : [ الطويل ]

وَقدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا *** قَتَيْبَةَ إلاَّ عَضَّها بالأبَاهِمِ{[15765]}

و " إذ " منصوب ب " دعواهم " .

وقوله : { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } " كُنَّا " وخبرها في محل رفع خبر ل " إنَّ " ، وَ " إنّ " وما في حيزها{[15766]} في محل نَصْبٍ محكياً ب " قَالُوا " ، و " قَالوا " وما في حيزه لا محل له لوقوعه صلةً ل " إنَّ " ، و " أنّ " وما في حيزها في محلِّ رفع ، أو نصب على حسب ما تقدَّم من كونها اسماً ، أو خبراً .

ومعنى الآية : أنَّهُم لم يَقْدِرُوا على ردِّ العذاب ، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالخيانَةِ حين لا ينفع الاعتراف .


[15760]:ينظر: الكشاف 2/8.
[15761]:ينظر: معاني القرآن 1/372.
[15762]:ينظر: معاني القرآن للزجاج 2/351.
[15763]:البيت لكثير عزة ينظر ديوانه 176، اللسان: مذل، التهذيب 14/435، (مذل)، الطبري 12/304، الدر المصون 3/235.
[15764]:ينظر: المحرر الوجيز 2/374.
[15765]:البيت للفرزدق ينظر: ديوانه 2/311، والمقتضب 4/90، اللسان (بهم)، البحر المحيط 4/280، الدر المصون 3/235، المحرر الوجيز 2/374.
[15766]:في أ: خبرها.