الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

قوله تعالى : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ } جَوَّزوا في " دعواهم " وجهين ، أحدهما : أن يكون اسماً ل " كان " و " إلا أَنْ قالوا " خبرها ، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جُعِل اسماً ، والأعرفَ جُعِل خبراً ، وقد فهمت ذلك في أول الأنعام عند { لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } [ الآية : 23 ] والثاني : أن يكون " دعواهم " خبراً مقدماً و " إلا أن قالوا " اسماً مؤخراً ، ذكر ذلك الزمخشري ، ومكي ابن أبي طالب ، وسبقهما إلى ذلك الفراء والزجاج ، واختاره الزجاج . ولكن ذلك يُشْكل مِنْ قاعدةً أخرى ذكرها النحاة وهو أن الاسمَ والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهما وَجَبَ تقديمُ الاسم وتأخيرُ الخبر نحو : كان موسى صاحبي ، وما كان دعائي إلا أن استغفرتُ ، قالوا : لأنهما كالمفعول والفاعل ، فمتى خفي الإِعرابُ التَزَمَ كلٌ في مرتبته ، وهذه الآيةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذلك ، بل كيف يختاره الزجاج ؟ وقد رأيتُ كلامَ الزجاج هنا فيمكن أن يؤخذَ منه جوابٌ عن هذا المكان وذلك أنه قال : " إلا أن الاختيارَ إذا كانت " الدعوى " في موضع رفع أن يقول : فما كانت دعواهم ، فلمَّا قال : " كان دعواهم " دَلَّ على أن الدعوى في موضعِ نصبٍ ، غيرَ أنه يجوز تذكير الدعوى وإن كانَتْ رفعاً " قلت : فمِنْ هنا يقال : تذكيرُ الفعل فيه قرينةٌ مرجِّحة لإِسناد الفعل إلى " أن قالوا " ، ولو كان مسنداً للدعوى لكان الأرجح " كانت " كما قال ، وهو قريب من قولك : " ضربت موسى سلمى " فقدَّمْتَ المفعولَ بقرينة تأنيث الفعل ، وأيضاً فإن ثَمَّ قرينةً أخرى وهي كونُ الأعرفِ أحقَّ أن يكون اسماً من غير الأعرف .

والدَّعْوى تكون بمعنى الدعاء وبمعنى الادِّعاء ، والمقصود بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً ، ويحتمل أيضاً أن يكون بمعنى الاعتراف . فمِنْ مجيئها بمعنى الدعاء ما حكاه الخليل : " اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين " تريد في صالح دعائهم ، وأنشدوا :

وإنْ مَذِلَتْ رِجْلي دعوتُك أشتفي *** بدَعْواكَ مِنْ مَذْلٍ بها فتهونُ

/ ومنه قوله تعالى : { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ } [ الأنبياء : 15 ] وقال الزمخشري : " ويجوز : فما كان استغاثتُهم إلا قولَهم هذا لأنه لا يُستغاث من الله تعالى بغيره ، مِنْ قولهم دعواهم يالكعب " . وقال ابن عطية : " وتحتمل الآية أن يكون المعنى : فما آلت دعاويهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى الاعتراف كقول الشاعر :

وقد شهدَتْ قيسٌ فما كان نصرُها *** قتيبةَ إلا عضَّها بالأباهم

و " إذ " منصوب ب " دعواهم " .

وقوله : { إِنَّا كُنَّا } " كنَّا " وخبرُها في محلِّ رفع خبراً لإِنَّا ، وإنَّ وما في حيِّزها في محلِّ نصب محكياً ب " قالوا " ، و " قالوا " وما في حيزه لا محلَّ له لوقوعه صلةً لأَنْ . وأَنْ وما في حيِّزها في محل رفع أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم مِنْ كونها اسماً أو خبراً .