قوله تعالى : { فما كان دعواهم } ، أي : قولهم ودعاؤهم ، وتضرعهم ، والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء ، قال سيبويه : تقول العرب : اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم .
قوله تعالى : { إذ جاءهم بأسنا } ، عذابنا .
قوله تعالى : إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } ، معناه لم يقدروا على رد العذاب ، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع الاعتراف .
فما كان منهم عندما باغتهم العذاب في وقت اطمئنانهم وراحتهم إلى أن اعترفوا بذنوبهم وقالوا على سبيل التحسر والندم وطمعا في الخلاص : إنا كنا ظالمين .
فهاتان الآيتان الكريمتان توضحان بأجلى بيان أن هلاك الأمم سببه بغيها وفسادها وانحرافها عن الطريق المستقيم ، وتلك سنة الله التي لا تختلف في أى زمان أو مكان . وأن الظالمين عندما يفاجأون بالعقوبة يتحسرون ولا يستطيعون إنكار ما ارتكبوه من جرائم ومنكرات ولكن ذلك لن ينفعهم لأن ندمهم وتحسرهم قد فات وقته ، وكان الأجدر بهم أن يتوبموا من ذنوبهم عندما جاءتهم النذر ، وقبل حلول العذاب .
ولذا قال ابن كثير : قال ابن جرير : في هذه الآية الدالالة الواضحة في صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ما هلك قوم حتى يعذروا عن أنفسهم " .
و { أَوْ } في قوله : { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } للتنويع ، أى أن بعضهم جاءهم عذابنا ليلا وبعضهم جاءهم نهاراً عند استراحتهم . وإنما خص هذان الوقتان بنزول العذاب ، لأنهما وقتا غفلة ودعة واستراحة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأوجع .
ومن العبر التي نأخذها من هاتين الآيتين أن العاقل هو الذي يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهى ، ولا يأمن صفو الليالى ، ورخاء الأيام ، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء فإنه { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون }
وقوله : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي : فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم ، وأنهم حقيقون بهذا . كما قال تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً [ وَأَنْشَأَْ بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ . قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا ] خَامِدِين }{[11549]} [ الأنبياء : 11 - 15 ] .
وقال ابن جرير : في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم " ، حدثنا بذلك ابن حُمَيْد ، حدثنا جرير ، عن أبي سِنان ، عن عبد الملك بن مَيْسَرة الزرّاد قال : قال عبد الله بن مسعود [ رضي الله عنه ]{[11550]} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما هلك قوم حتى يُعْذِروا من أنفسهم " . قال : قلت لعبد الملك : كيف يكون ذاك ؟ قال : فقرأ هذه الآية : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ }{[11551]} .
وقوله تعالى : { فما كان دعواهم } الآية ، تبين في هذه الآية غاية البيان أن المراد في الآية قبلها أهل القرى ، والدعوى في كلام العرب لمعنيين ، أحدهما الدعاء قال الخليل : تقول اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين ومنه قوله عز وجل : { فما زالت تلك دعواهم } .
وإن مَذِلَتْ رجلي دعوتك أشتفي*** بدعواك من مذل بها فيهونُ
والثاني الادعاء ، فقال الطبري : هي في هذا الموضع بعنى الدعاء .
قال القاضي أبو محمد : ويتوجه أن يكون أيضاً بمعنى الادعاء ، لأن من ناله مكروه أو حزبه حادث فمن شأنه أن يدعو كما ذهب إليه المفسرون في فعل هؤلاء المذكورين في هذه الآية ، ومن شأنه أيضاً أن يدعي معاذير وأشياء تحسن حاله وتقيم حجته في زعمه ، فيتجه أن يكون هؤلاء بحال من يدعي معاذير ونحوها ، فأخبر الله عنهم أنهم لم تكن لهم دعوى ثم استثنى من غير الأول ، كأنه قال لم يكن دعاء أو ادعاء إلا الإقرار والاعتراف ، أي هذا كان بدل الدعاء أو الادعاء ، وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف ، ونحو من الآية قول الشاعر : [ الفرزدق ]
وقد شهدت قيس فما كان نصرها*** قتيبة إلا عضها بالأباهم
واعترافهم وقولهم { إنا كنا ظالمين } هو في المدة بين ظهور العذاب إلى إتيانه على أنفسهم ، وفي ذلك مهلة بحسب نوع العذاب تتسع لهذه المقالة وغيرها ، وروى ابن مسعود عن النبي عليه السلام أنه قال «ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم » . وفسر عبد الملك بن ميسرة هذا الحديث بهذه الآية . و { دعواهم } خبر كان ، واسمها { إلا أن قالوا } وقيل بالعكس .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها إذ جاءهم بأسنا وسطوتنا بياتا أو هم قائلون، إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين، وبربهم آثمين، ولأمره ونهيه مخالفين. وعنى بقوله جلّ ثناؤه: دَعْواهُمْ في هذا الموضع: دعاءهم. وللدعوى في كلام العرب وجهان: أحدهما الدعاء، والآخر: الادّعاء للحقّ. وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يُعْذِرُوا مِنْ أنْفُسِهِمْ»...
تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :
معناه: لم يقدروا على رد العذاب حين جاءهم العذاب، وكان حاصل أمرهم أن اعترفوا بالخيانة حين لا ينفع الاعتراف...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلاّ اعترافهم ببطلانه وفساده. وقولهم: {إِنَّا كُنَّا ظالمين} فيما كنا عليه. ويجوز: فما كان استغاثتهم إلاّ قولهم هذا، لأنه لا مستغاث من الله بغيره... ويجوز، فما كان دعواهم ربهم إلاّ اعترافهم لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم، وأن لات حين دعاء، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
...كأنه قال لم يكن دعاء أو ادعاء إلا الإقرار والاعتراف، أي هذا كان بدل الدعاء أو الادعاء، وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف...
جهود القرافي في التفسير 684 هـ :
ومعنى هذه الآية: أن بأس الله تعالى إذا جاء تشتد داعية المعذب الجاني لطلب المعاذير والحجج ليندفع عنه العذاب. فالله تعالى يقول: ما كانت طلباتهم للمعاذير إلا اعترافهم بالجنايات، وهو عكس طلب العذر، فالإخبار بذلك أشد في الوعيد وأبلغ في الزجر عن الكفر.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
والعبرة في الآية: أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنبه في الدنيا يندم ويتحسر ويعترف بظلمه وجرمه إذا علم أنه هو سبب العقاب، وما كل معاقب يعلم ذلك لأن من الذنوب ما يجهل أكثر الناس أنه سبب للعقاب، وأما الذنوب التي مضت سنة الله تعالى بجعل عقابها أثرا لازما لها في الدنيا فلا تطرد في الأفراد كاطرادها في الأمم، ولا تكون دائما متصلة باقتراف الذنب، بل كثيرا ما تقع على التراخي فلا يشعر فاعلها بأنها أثر له، وأما ذنوب الأمم فعقابها في الدنيا مطرد ولكن لها آجالا ومواقيت أطول من مثلها في ذنوب الأفراد وتختلف باختلاف أحوالها في القوة والضعف كما تختلف في الأفراد بل أشد...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
(فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين).. والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى! (إنا كنا ظالمين).. فياله من موقف مذهل رعيب مخيف، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك! إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك. فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن.. فالشرك هو الظلم. والظلم هو الشرك. وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه؟!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
قوله: {فما كان دعواهم} يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله: {فجاءها بأسنا} لأنّه من بقيّة المذكور، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس.
والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله: [يونس: 10] وهو كثير في القرآن، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى.
ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي: انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ، فلم تبق لهم دعوى، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى.
واقتصارهم على قولهم: {إنا كنا ظالمين} إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو، فعوجلوا بالعذاب، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدّنيا مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في الحشر، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب.
وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام، فمن اعتاد قول الخير نطق به، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم.
والمراد بقولهم: {كنا ظالمين} أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد، وتكذيب الرّسل، والإعراض عن الآيات، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله، قال تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] أي أنّ الله لم يظلمهم، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون، من قبل نزول العذاب، وكانوا مصرين عليه ومكابرين، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم...
وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد، مثل الويل والثّبور...