عادت السورة الكريمة ، كما بدأت إلى الحديث عن أهوال يوم القيامة ، وعن إمكانية وقوعه ، وعن أحوال الناس فيه . وعن أن موعد قيامه مرد علمه إلى الله - تعالى - وحده ، فقال - سبحانه - :
{ أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء . . . } .
الخطاب فى قوله - تعالى - : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً . . . } لأولئك الجاحدين الجاهلين الذين استنكروا إعادتهم إلى الحياة بعد موتهم ، وقالوا : { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة } وجاء هذا الخطاب على سبيل التقريع والتوبيخ لهم ، حيث بين لهم - سبحانه - أن إعادتهم إلى الحياة ، ليست بأصعب من خلق السموات والأرض .
و { أَشَدُّ } أفعل تفضيل ، والمفضل عليه محذوف ، لدلالة قوله - تعالى - : { أَمِ السمآء } عليه .
والمراد بالأشد هنا : الأصعب بالنسبة لاعتقاد المخاطبين ، إذ كل شئ فى هذا الكون خاضع لإرادة الله - تعالى - ومشيئته { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } والمعنى : أخلقكم - أيها الجاهلون - بعد موتكم ، وإعادتكم إلى الحياة بعد هلاككم ، أشد وأصعب فى تقديركم ، أم خلق السماء التى ترون بأعينكم عظمتها وضخامتها ، والتى أوجدها - سبحانه وبناها بقدرته .
فالمقصود من الآية الكريمة لفت أنظارهم إلى أمر معلوم عندهم بالمشاهدة ، وهو أن خلق السماء أعظم وأبلغ من خلقهم ، ومن كان قادرا على الأبلغ والأعظم كان على ما هو أقل منه - وهو خلقهم وإعادتهم بعد موتهم - أقدر .
وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس . . . }
يقول تعالى محتجًا على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه : { أَأَنْتُمْ } أيها الناس { أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ } ؟ يعني : بل السماءُ أشدّ خلقًا منكم ، كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } [ غافر : 57 ] ، وقال : { أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ {[29683]} } [ يس : 81 ] ،
فقوله : { بَنَاهَا } فسره بقوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا }
وقوله : أأنْتُمْ أشَدّ خَلْقا أمِ السّماءُ بَناها يقول تعالى ذكره للمكذّبين بالبعث من قريش ، القائلين أئِذَا كُنّا عِظاما نَخِرَةً قالُوا تِلكَ إذًا كَرّةٌ خاسِرَةٌ : أأنتم أيها الناس أشدّ خلقا ، أم السماء بناها ربكم ؟ فإن من بنى السماء فرفعها سقفا ، هَيّن عليه خلقكم وخلق أمثالكم ، وإحياؤكم بعد مماتكم . وليس خلقكم بعد مماتكم بأشدّ من خلق السماء . وعُني بقوله : بَناها : رَفَعها ، فجعلها للأرض سقفا .
انتقال من الاعتبار بأمثالهم من الأمم الذي هو تخويف وتهديد على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى إبطال شبهتهم على نفي البعث وهي قوله : { أينا لمردودون في الحافرة } [ النازعات : 10 ] وما أعقبوه به من التهكم المبني على توهم إحالة البعث . وإذ قد فرضوا استحالة عود الحياة إلى الأجسام البالية إذ مثلوها بأجساد أنفسهم إذ قالوا : { أينا لمردودون } [ النازعات : 10 ] جاء إبطال شبهتهم بقياس خلق أجسادهم على خلق السماوات والأرض فقيل لهم : { أأنتم أشد خلقاً أم السماء } ، فلذلك قيل لهم هنا أأنتم بضميرهم ولم يقل : آالإِنسان أشدّ خلقاً ، وما هم إلا من الإِنسان ، فالخطاب موجه إلى المشركين الذين عبر عنهم آنفاً بضمائر الغيبة من قوله : { يقولون } إلى قوله : { فإذا هم بالساهرة } [ النازعات : 10 14 ] ، وهو التفات من الغيبة إلى الخطاب .
فالجملة مستأنفة لقصد الجواب عن شبهتهم لأن حكاية شبهتهم ب { يقولون أينا } إلى آخره ، تقتضي ترقب جواب عن ذلك القول كما تقدم الإِيماء إليه عند قوله : { يقولون أينا لمردودون } [ النازعات : 10 ] .
والاستفهام تقريري ، والمقصود من التقرير إلجاؤهم إلى الإِقرار بأنّ خلق السماء أعظم من خلقهم ، أي مِن خلق نوعهم وهو نوع الإِنسان وهم يعلمون أن الله هو خالق السماء فلا جرم أن الذي قدر على خلق السماء قادر على خلق الإِنسان مرة ثانية ، فينتج ذلك أن إعادة خلق الأجساد بعد فنائها مقدورة لله تعالى لأنه قدَر على ما هو أعظم من ذلك قال تعالى : { لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ غافر : 57 ] ، ذلك أن نظرهم العقلي غيَّمت عليه العادة فجعلوا ما لم يألفوه مُحالاً ، ولم يلتفتوا إلى إمكان ما هو أعظم مما أحالوه بالضرورة .
و { أشد } : اسم تفضيل ، والمفضل عليه محذوف يدل عليه قوله { أم السماء } .
ومعنى { أشد } أصعب ، و { خلقاً } مصدر منتصب على التمييز لنسبة الأشدّية إليهم ، أي أشد من جهة خلق الله إياكم أشد أم خلقه السماء ، فالتمييز مُحوّل عن المبتدأ .
و { السماء } يجوز أن يراد به الجنس وتعريفه تعريف الجنس ، أي السماوات وهي محجوبة عن مشاهدة الناس فيكون الاستفهام التقريري مبنياً على ما هو مشتهر بين الناس من عظمة السماوات تنزيلاً للمعقول منزل المحسوس .
ويجوز أن يراد به سماء معينة وهي المسماة بالسماء الدنيا التي تلوح فيها أضواء النجوم فتعريفه تعريف العهد ، وهي الكرة الفضائية المحيطة بالأرض ويَبدو فيها ضوء النهار وظلمةُ الليل ، فيكون الاستفهام التقريري مبنياً على ما هو مشاهد لهم . وهذا أنسب بقوله : { وأغطَشَ ليلَها وأخرج ضحاها } لعدم احتياجه إلى التأويل .
وجملة { بناها } يجوز أن تكون مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان شدة خلق السماء ، ويجوز أن تكون بدل اشتمال في قوله : { أم السماء } ، لأنه في تقدير : أم السماء أشد خلقاً .
وقد جعلت كلمة { بناها } فاصلة فيكون الوقف عندها ولا ضير في ذلك إذ لا لبس في المعنى لأن { بناها } جملة و { أم } المعادلة لا يقع بعدها إلا اسم مفرد .
والبناء : جعل بيت أو دار من حجارة ، أو آجر أو أدم ، أو أثواب من نسيج الشعر ، مشدودة شُققه بعضها إلى بعض بغَرز أو خياطة ومقامة على دعائم ، فما كان من ذلك بأدم يسمى قُبة وما كان بأثواب يسمى خيمة وخباء .
وبناء السماء : خلقها ، استعير له فعل البناء لمشابهتها البيوت في الارتفاع .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.