وقوله : { مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ . إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ } قال {[27462]} الإمام أحمد :
حدثنا يحيى بن آدم وأبو سعيد قالا حدثنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد{[27463]} ، عن عبد الله بن مسعود قال : أقرأني رسول الله {[27464]} صلى الله عليه وسلم : " إني لأنا الرزاق ذو القوة المتين " .
ورواه أبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، من حديث إسرائيل ، وقال الترمذي : حسن صحيح{[27465]} .
ومعنى الآية : أنه تعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب ، وأخبر أنه غير محتاج إليهم ، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، فهو خالقهم ورازقهم .
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن عبد الله ، حدثنا عمران - يعني ابن زائدة بن نَشِيط - عن أبيه ، عن أبي خالد - هو الوالبي - عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله : " يا ابن آدم ، تَفَرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غِنًى ، وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسد فقرك " .
ورواه الترمذي وابن ماجه ، من حديث عمران بن زائدة ، وقال الترمذي : حسن غريب{[27466]} .
وقد روى الإمام أحمد عن وكيع وأبي معاوية ، عن الأعمش ، عن سلام أبي شُرحْبِيل ، سمعت حَبَّة وسواء ابني خالد يقولان : أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعمل عملا أو يبني بناء - وقال أبو معاوية : يصلح شيئا - فأعناه عليه ، فلما فرغ دعا لنا وقال : " لا تيأسا من الرزق ما تهززت رءوسكما ، فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشرة ، ثم يعطيه الله ويرزقه " {[27467]} . و [ قد ورد ]{[27468]} في بعض الكتب الإلهية : " يقول الله تعالى : ابن آدم ، خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني ؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فُتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء " .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّ اللّهَ هُوَ الرّزّاقُ ذُو الْقُوّةِ الْمَتِينُ * فَإِنّ لِلّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً مّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } .
يقول تعالى ذكره : إن الله هو الرزّاق خلقه ، المتكفل بأقواتهم ، ذو القوّة المتين .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : المَتِين ، فقرأته عامة قرّاء الأمصار خلا يحيى بن وثاب والأعمش : ذُو القُوّةِ المَتِين رفعا ، بمعنى : ذو القوّة الشديد ، فجعلوا المتين من نعت ذي ، ووجهوه إلى وصف الله به . وقرأه يحيى والأعمش «المَتِينِ » خفضا ، فجعلاه من نعت القوّة ، وإنما استجاز خفض ذلك من قرأه بالخفض ، ويصيره من نعت القوّة ، والقوّة مؤنثة ، والمتين في لفظ مذكر ، لأنه ذهب بالقوّة من قوي الحبل والشيء ، المبرم : الفتل ، فكأنه قال على هذا المذهب : ذو الحبل القويّ . وذكر الفراء أن بعض العرب أنشده :
لكُلّ دَهْرٍ قَدْ لَبِسْتُ أَثُؤْبا *** مَنْ رَيْطَةٍ واليُمْنَةَ المُعَصّبا
فجعل المعصب نعت اليمنة ، وهي مؤنثة في اللفظ ، لأن اليمنة ضرب وصنف من الثياب ، فذهب بها إليه .
والصواب من القراءة في ذلك عندنا ذُو القُوّةِ المَتِينُ رفعا على أنه من صفة الله جلّ ثناؤه ، لإجماع الحجة من القرّاء عليه ، وأنه لو كان من نعت القوّة لكان التأنيث به أولى ، وإن كان للتذكير وجه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : ذُو القُوّةِ المَتِينُ يقول : الشديد .
تعليل لجملتي { ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون } [ الذاريات : 57 ] و { الرزق } هنا بمعنى ما يعمّ المال والإِطعام .
والرزاق : الكثير الإِرزاق ، والقوةُ : القدرة .
وذو القوة : صاحب القدرة . ومن خصائص ( ذو ) أن تضاف إلى أمر مهم ، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص .
والمتين : الشديد ، وهو هنا وصف لذي القوة ، أي الشديد القوة ، وقد عدّ { المتين } في أسمائه تعالى . قال الغزالي : وذلك يرجع إلى معاني القدرة . وفي « معارج النور » شرح الأسماء « المتينُ : كمال في قوته بحيث لا يعارض ولا يُدانَى » .
فالمعنى أنه المستغني غنىً مطلقاً فلا يحتاج إلى شيء فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله : { إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] .
وإظهار اسم الجلالة في { إن الله هو الرزاق } إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضاه : إني أَنا الرزاق ، فعدل عن الإِضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سُيرت مسِير الكلام الجامع والأمثال .
وحذفت ياء المتكلم من { يعبدون } و { يطعمون } للتخفيف ، ونظائره كثيرة في القرآن .
وفي قوله : { إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } طريق قصر لوجود ضمير الفصل ، أي : لا رَزَّاق ، ولا ذا قوة ، ولا متين إلا الله وهو قصر إضافي ، أي دون الأصنام التي يعبدونها .
فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها : الإِرزاق ، والقوة ، والشدة ، فأبطل ذلك بهذا القصر ، قال تعالى : { إن الذين تعبدون من دون اللَّه لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند اللَّه الرزق واعبدوه } [ العنكبوت : 17 ] ، وقال : { إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{إن الله هو الرزاق ذو القوة} يعني البطش... {المتين} يعني الشديد...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: إن الله هو الرزّاق خلقه، المتكفل بأقواتهم،" ذو القوّة المتين"... بمعنى: ذو القوّة الشديد...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدهما: أن الأسباب التي بها يُرزقون، ويصلون إلى الانتفاع بها، هي فعل الله تعالى، وله فيها صُنعٌ؟ صار بذلك رازقا، لولا ذلك لم يصلوا إلى ذلك، وإن كان الخلق هم الذين يكدّون، ويعملون تلك الأسباب والمكاسِب. فإنما أُضيف إليه الرّزق لما أنشأ فعل تلك الأسباب والمكاسب منهم، والله أعلم...
والثاني: يحتمل إضافة الرزق إليه لأنه يرزقُهم بما جعل في تلك الأسباب والمكاسب من اللّطف لا بأنفس الأسباب لأنهم يزرعون، ويطرحون البذر فيها، فيهلك ذلك فيها، وكذلك يسقون الأرض، ويهلك ذلك الماء فيها. ثم إن الله تعالى جعل بلطفه ورحمته في ذلك من اللطف ما يصير ذلك رزقا لهم بعد ذهاب عينه والقوة التي جعلها فيه. وكذلك ما جعل فيه من الصّلاح والنضج والطبخ وما يرجع إلى الإصلاح لذلك والأكل والمضغ والابتلاع ونحو ذلك، ليس في ذلك إلا امتلاء البطن، وفي ذلك فساد، فجعل فيه من القوة ما ينشر في البدن والأطراف قوة، فتبقى بتلك القوة فيه الحياة والبقاء لا بنفس الرّزق، وهو ما وصف الله عز وجل نفسه بقوله: {ن الله هو الرّزّاق ذو القوة المتين} بتلك القوة يحيون، وبها يبقون.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
"المتين" ومعناه أنه القوي الذي يستحيل عليه العجز والضعف... ومن فسر "المتين" بالشديد فقد غلط، لان الشديد هو الملتف بما يصعب معه تفكيكه. ووصف القوة بأنها أشد يؤذن بالمجاز، وأنه بمعنى أعظم...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وقال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، ولا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي ولا رزقكم، وأنا غنيّ عنكم وعن مرافقكم، ومتفضل عليكم برزقكم وبما يصلحكم ويعيشكم من عندي، فما هو إلا أنا وحدي «المتين» الشديد القوة...
{إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} تعليلا لما تقدم من الأمرين، فقوله {هو الرزاق} تعليل لعدم طلب الرزق وقوله تعالى: {ذو القوة} تعليل لعدم طلب العمل، لأن من يطلب رزقا يكون فقيرا محتاجا ومن يطلب عملا من غيره يكون عاجزا لا قوة له، فصار كأنه يقول ما أريد منهم من رزق فإني أنا الرزاق ولا عمل فإني قوي...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
تعليل لجملتي {ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون} [الذاريات: 57] و {الرزق} هنا بمعنى ما يعمّ المال والإِطعام.
والرزاق: الكثير الإِرزاق، والقوةُ: القدرة.
وذو القوة: صاحب القدرة. ومن خصائص (ذو) أن تضاف إلى أمر مهم، فعلم أن القوة هنا قوة خلية من النقائص.
والمتين: الشديد، وهو هنا وصف لذي القوة، أي الشديد القوة، وقد عدّ {المتين} في أسمائه تعالى. قال الغزالي: وذلك يرجع إلى معاني القدرة. وفي « معارج النور» شرح الأسماء « المتينُ: كمال في قوته بحيث لا يعارض ولا يُدانَى.
فالمعنى أنه المستغني غنىً مطلقاً فلا يحتاج إلى شيء، فلا يكون خلقه الخلق لتحصيل نفع له ولكن لعمران الكون وإجراء نظام العمران باتباع الشريعة التي يجمعها معنى العبادة في قوله: {إلا ليعبدون} [الذاريات: 56].
وإظهار اسم الجلالة في {إن الله هو الرزاق} إخراج للكلام على خلاف مقتضى الظاهر لأن مقتضاه: إني أَنا الرزاق، فعدل عن الإِضمار إلى الاسم الظاهر لتكون هذه الجملة مستقلة بالدلالة لأنها سُيرت مسِير الكلام الجامع والأمثال...
وفي قوله: {إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} طريق قصر لوجود ضمير الفصل، أي: لا رَزَّاق، ولا ذا قوة، ولا متين إلا الله وهو قصر إضافي، أي دون الأصنام التي يعبدونها.
فالقصر قصر إفراد بتنزيل المشركين في إشراكهم أصنامهم بالله منزلة من يدعي أن الأصنام شركاء لله في صفاته التي منها: الإِرزاق، والقوة، والشدة، فأبطل ذلك بهذا القصر، قال تعالى: {إن الذين تعبدون من دون اللَّه لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند اللَّه الرزق واعبدوه} [العنكبوت: 17]، وقال: {إن الذين تدعون من دون اللَّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب} [الحج: 73].