قوله تعالى : { ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ، أراد : أن الله تعالى لا يغير ما أنعم على قوم حتى يغيروا هم ما بهم ، بالكفران وترك الشكر ، فإذا فعلوا ذلك غير الله ما بهم ، فسلبهم النعمة . وقال السدي : نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم أنعم الله به على قريش وأهل مكة فكذبوه ، وكفروا به ، فنقله الله إلى الأنصار . قوله تعالى : { وأن الله سميع عليم } .
وقوله : { ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ . . . } بيان لسنة من سننه - تعالى - في خلقه ، وتعليل لتعذيب أولئك الكفار ، ولسلب نعمه عنهم وعن أشباههم من العصاة والجاحدين واسم الإِشارة : { ذلك } يعود إلى تعذيب الكفرة المعبر عنه بقوله - تعالى - { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } .
وهو ، أى : اسم الإِشارة مبتدأ وخبره قوله - سبحانه - { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً . . } إلخ .
والمعنى : ذلك الذي نزل بهؤلاء الكفرة من التعذيب والخذلان عدل إلهيى ، فقد جرت سنته - سبحانه - في خلقه ، واقتضت حكمته في حكمه ألا يبدل نعمه بنقم إلا بسبب ارتكاب الذنوب ، واجتراح السيئات ، فإذا لم يتلق الناس نعمه - عز وجل - بالشكر والطاعة ، وقابلوها بالكفر والعصيان ، بدل نعمتهم بنقم جزاء وفاقا .
وشبيه بهذا قوله - تعالى - في آية أخرى : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } قال الفخر الرازى : قال القاضى : معنى الآية أنه - تعالى - أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل ، والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ، ويعدلوا عن الكفر ، فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر ، فقد غيروا نعمة الله - تعالى - على أنفسهم ، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم ، والمنح بالمحن .
قال : وهذا من أوكد ما يدل على أنه - تعالى - لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة .
وقال صاحب الكشاف : " فإن قلت : فما كان من تغيير آل فرعون ومشركى مكة حتى غير الله نعمته عليهم ، ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة ؟ .
قلت : كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة ، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها وأولئك كانوا قبل بعثه الرسول - صلى الله عليه وسلم - إليهم كفرة عبدة أصنام ، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه ، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت ، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإِمهال وعاجلهم بالعذاب .
وقوله : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } معطوف على قوله : { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً } إلخ .
أى : ذلك التعذيب بسبب جحودهم لنعم ، وبسبب أنه - سبحانه - سميع لما نطقوا به من سوء ، وعليم بما ارتكبوه من قبائح ومنكرات ، وقد عاقبتهم على ذلك بما يستحقون من عذاب : { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ }
ولقد آتاهم الله من نعمته ، ورزقهم من فضله ، ومكن لهم في الأرض ، وجعلهم خلائف فيها . . وهذا كله إنما يعطيه الله للناس ابتلاء منه وامتحاناً ، لينظر أيشكرون أم يكفرون ? ولكنهم كفروا ولم يشكروا ؛ وطغوا وبغوا بما أعطوا ، وغيرتهم النعمة والقوة فصاروا جبابرة وطواغيت كفرة فجرة . . وجاءتهم آيات الله فكفروا بها . . وعندئذ حقت عليهم سنة الله في أخذ الكافرين بعد أن تبلغهم آياته فيكذبوا بها . . وعندئذ غير الله النعمة ، وأخذهم بالعذاب ، ودمر عليهم تدميراً :
( ذلك بأن الله لم يك مغيراً نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم . وأن الله سميع عليم ) .
{ ذلك } في موضع رفع على خبر الابتداء تقديره عند سيبويه الأمر ذلك ، ويحتمل أن يكون التقدير وجب ذلك ، والباء باء السبب{[5415]} ، وقوله { لم يك مغيراً } جزم ب { لم } وجزمه بحذف النون ، والأصل يكون فإذا دخلت لم جاء لم يكن ، ثم قالوا «لم يك مغيراً » كأنهم قصدوا التخفيف فتوهموا دخول «لم » على يكن فحذفت النون للجزم ، وحسن ذلك فيها لمشابهتها حروف اللين التي تحذف للجزم كما قالوا لم أبال ، ثم قالوا لم أبل فتوهموا دخول لم على أبال ؟ ومعنى هذه الآية الإخبار بأن الله عز وجل إذا أنعم على قوم نعمة فإنه بلطفه ورحمته لا يبدأ بتغيرها وتكديرها حتى يجيء ذلك منهم بأن يغيروا حالهم التي تراد وتحسن منهم ، فإذا فعلوا ذلك وتلبسوا بالتكسب للمعاصي أو الكفر الذي يوجب عقابهم غير الله نعمته عليهم بنقمته منهم ، ومثال هذا نعمة الله على قريش بمحمد صلى الله عليه وسلم فكفروا ما كان يجب أن يكونوا عليه ، فغير الله تلك النعمة بأن نقلها إلى غيرهم من الأنصار وأحل بهم عقوبته .
وقوله { وأن } عطف على الأولى ، و { سميع عليم } أي لكل وبكل ما يقع من الناس في تغيير ما بأنفسهم لا يخفى عليه من ذلك سر ولا جهر .
استئناف بياني . والإشارة إلى مضمون قوله : { فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب } [ الأنفال : 52 ] أي ذلك المذكور بسبب أنّ الله لم يك مغيّرا إلخ أي ذلك الأخذ بسبب أعمالهم التي تسببوا بها في زوال نعمتهم .
والإشارة تفيد العناية بالمخبر عنه ، وبالخبر . والتسبيب يقتضي أنّ آل فرعون والذين من قبلهم كانوا في نعمة فغيرها الله عليهم بالنقمة ، وأنّ ذلك جرى على سنة الله أنّه لا يسلب نعمة أنعمها على قوم حتّى يغيّروا ذلك بأنفسهم ، وأنّ قوم فرعون والذين من قبلهم كانوا من جملة الأقوام الذين أنعم الله عليهم فتسببّوا بأنفسهم في زوال النعمة كما قال تعالى : { وكم أهلكنا من قرية بطرت معيشتها } [ القصص : 58 ] .
وهذا إنذار لقريش يحلّ بهم مثل ما حَلّ بغيرهم من الأمم الذين بطروا النعمة . فقوله : { لم يك مغيراً } مؤذن بأنّه سنة الله ومقتضى حكمته ، لأنّ نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيّه .
و« التغيير » تبديل شيء بما يضاده فقد يكون تبديلَ صورة جسم كما يقال : غَيّرتُ داري ، ويكون تغيير حال وصفة ومنه تغيير الشيب أي صباغه ، وكأنه مشتقّ من الغير وهو المخالف ، فتغيير النعمة إبدالها بضدّها وهو النقمة وسوء الحال ، أي تبديل حالة حسنة بحالة سيّئة .
ووصف النعمة ب { أنعمها على قوم } للتذكير بأنّ أصل النعمة من الله .
و { ما بأنفسهم } موصول وصلة ، والباء للملابسة ، أي ما استقرّ وعلق بهم . وما صْدق { ما } النعمة التي أنعم الله عليهم كما يؤذن به قوله : { مغيراً نعمة أنعمها على قوم } والمراد بهذا التغيير تغيير سببه . وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران .
ذلك أنّ الأمم تكون صالحة ثم تتغيّر أحوالها ببطر النعمة فيعظم فسادها ، فذلك تغيير ما كانوا عليه ؛ فإذا أراد الله إصلاحهم أرسل إليهم هداة لهم ، فإذا أصلحوا استمرّت عليهم النعم مثل قوم يونس وهم أهل ( نينوَى ) ، وإذا كذَّبوا وبطِروا النعمة غيّر الله ما بهم من النعمة إلى عذاب ونقمة . فالغاية المستفادة من { حتّى } لانتفاء تغيير نعمة الله على الأقوام هي غاية متّسعة ، لأنّ الأقوام إذا غيّروا ما بأنفسهم من هُدى ؛ أمهلهم الله زمناً ثم أرسل إليهم الرسل فإذا أرسل إليهم الرسل فقد نبّههم إلى اقتراب المؤاخذة ثم أمهلهم مدّة لتبليغ الدعوة والنظر فإذا أصرّوا على الكفر غيَّر نعمته عليهم بإبدالها بالعذاب أو الذلّ أو الأسر كما فعل ببني إسرائيل حين أفسدوا في الأرض فسلَّط عليهم الأشوريين .
و { أنّ الله سميع عليم } عطف على قوله : { بأن الله لم يك مغيراً } أي ذلك بأنّ الله يعلم ما يضمره الناس وما يعملونه ويعلم ما ينطقون به فهو يعاملهم بما يعلم منهم . وذكر صفة { سميع } قبل صفة { عليم } يومىء إلى أن التغيير الذي أحدثه المعرَّض بهم متعلّق بأقوالهم وهو دعوتهم آلهة غير الله تعالى .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{ذلك} العذاب {بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم} على أهل مكة، أطعمهم من جوع، وآمنهم من خوف، ثم بعث فيهم محمدا رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه النعمة التي غيروها، فلم يعرفوا ربها، فغير الله ما بهم من النعم، فذلك قوله: {حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم وفعلنا ذلك بهم، بأنهم غيروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسوله منهم وبين أظهرهم، بإخراجهم إياه من بينهم وتكذيبهم له وحربهم إياه فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم، كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا...
عن السديّ:"ذلكَ بأنّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيّرا نِعْمَةً أنْعَمَها على قَوْمٍ حتى يُغَيّرُوا ما بأنْفُسِهمْ" يقول: نعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم، أنعم به على قريش وكفروا، فنقله إلى الأنصار.
وقوله: "وأنّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ "يقول: لا يخفى عليه شيء من كلام خلقه، يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرّ، عليم بما تضمره صدورهم، وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون، إن خيرا فخيرا وإن شرّا فشرّا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قال قائلون: النعمة التي أنعمها عليهم هم الرسل الذين بعثهم إليهم والكتب التي أنزلها عليهم (لم يك مغيرا) لتلك النعم (حتى يغيروا ما بأنفسهم) من التكذيب والرد وترك القبول، وهو كقوله تعالى: (وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا) [الإسراء: 15] وقوله تعالى: (وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلوا عليهم آياتنا) [القصص: 59]. وقال قائلون: قوله تعالى: (لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) أي حتى يصرفوا شكر نعمة إلى غير الله.
وقوله تعالى: (وأن الله سميع عليم) قيل: أي (سميع) لشكر من يشكره، ويحمده (عليم) لزيادة النعمة إذا شكر. ويحتمل: (سميع) أي مجيب عليهم بمصالحهم ويحتمل أنه (سميع) لما أسروا من القول، وجهروا به (عليم) بما أضمروا من العمل والشرور.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
وإذا أراد -سبحانه- إزالةَ نعمةٍ عن عبدٍ أَذَلَّه بخذلان الكفر، فإذا حَالَ عن طريق الشكر عرَّض النِّعمة للزوال. فما دام العبدُ يشكر النعمة مقيماً كان الحقُّ في إنعامه عليه مُديماً، فإذا قابل النعمة بالكفر انتثر سِلْكُ نظامه، فبقدر ما يزيد في إصراره يزول الأمر عن قراره.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
و {ذلك} إشارة إلى ما حل بهم، يعني ذلك العذاب أو الانتقام بسبب أن الله لم ينبغ له ولم يصحّ في حكمته أن يغير نعمته عند قوم {حتى يُغَيّرُواْ مَا} بهم من الحال.
فإن قلت: فما كان من تغيير آل فرعون ومشركي مكة حتى غير الله نعمته عليهم؟ ولم تكن لهم حال مرضية فيغيروها إلى حال مسخوطة قلت: كما تغير الحال المرضية إلى المسخوطة، تغير الحال المسخوطة إلى أسخط منها، وأولئك كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلما بعث إليهم بالآيات البينات فكذبوه وعادوه وتحزبوا عليه ساعين في إراقة دمه، غيروا حالهم إلى أسوأ مما كانت، فغير الله ما أنعم به عليهم من الإمهال وعاجلهم بالعذاب. {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ} لما يقول مكذبو الرسل {عَلِيمٌ} بما يفعلون.
معنى الآية أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل والمقصود أن يشتغلوا بالعبادة والشكر ويعدلوا عن الكفر، فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر، فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم والمنح بالمحن، وهذا من أوكد ما يدل على أنه تعالى لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة، والذي يفعله لا يكون إلا جزاء على معاص سلفت.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وظاهر النعمة أنه يُراد به ما يكونون فيه من سعة الحال والرفاهية والعزّة والأمن والخصب وكثرة الأولاد، والتغيير قد يكون بإزالة الذات وقد يكون بإزالة الصفات فقد تكون النعمة أذهبت رأساً وقد تكون قلّلت وأضعفت والظاهر من قوله {على قوم} العموم في كل من أنعم الله عليه من مسلم وكافر وبرّ وفاجر، وأنه تعالى متى أنعم على أحد فلم يشكر بدّله عنها بالنقمة.
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} أي ذلك الذي ذكر من أخذه تعالى لقريش بكفرها لنعم الله عليها التي أتمها ببعثة خاتم رسله منهم كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم مؤيد بأمر آخر يتم به عدله تعالى وحكمته، وهو أنه لم يكن من شأنه ولا مقتضى سنته أن يغير نعمة ما أنعمها على قوم حتى يغيروا هم ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة، {وأن الله سميع عليم}: سميع لأقوالهم عليم بأحوالهم وأعمالهم محيط بما يكون من كفرهم للنعمة فيعاقبهم عليه.
فصل في بيان سنته تعالى في تغيير أحوال الأمم
هذا بيان لسنة عظيمة من أعظم سنن الله تعالى في نظام الاجتماع البشري يعلم منها بطلان تلك الشبهات التي كانت غالبة على عقول الناس من جميع الأمم، ولا يزال جماهير الناس يخدعون بها، وهي ما يتعلق بنوط سعادة الأمم وقوتها وغلبها وسلطانها بسعة الثروة، وكثرة حصى الأمة...
وكان من غرورهم بها أن كانوا يظنون أن من أوتيها لا تسلب منه، وأنه كما فضله الله على غيره بابتدائها، كذلك يفضله بدوامها {وقالوا نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين} [سبأ:35] وقد بنينا غرور البشر بهذه الظواهر في مواضع من هذا التفسير. ثم ظهر أقوام آخرون يرون أن الله تعالى يحابي بعض الأمم والشعوب على بعض بنسبها، وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوة أو ما دونها، فيؤتيهم الملك والسيادة والسعادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إلى مللهم ولا سيما إذا كانوا من آبائهم، كما كان شأن بني إسرائيل في غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم، وكما فعل الذين اتبعوا سننهم من النصارى ثم المسلمين. بالغرور في الدين، ودعوة اتباع النبيين، وبكرامات الأولياء والصالحين، وإن كانوا لهم من أشد المخالفين. فبين الله تعالى لكل قوم خطأهم بهذه الآية وبما سبق في معناها، وهو أعم منها في سورة الرعد من قوله تعالى: {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد:11] وأثبت لهم أن نعم الله تعالى على الأقوام والأمم منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وعقائد وعوائد وأعمال تقتضيها فما دامت هذه الشؤون لاصقة بأنفسهم متمكنة منها كانت تلك النعم ثابتة بثباتها، ولم يكن الرب الكريم لينتزعها منهم انتزاعا بغير ظلم منهم ولا ذنب: فإذا هم غيروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق، وما يترتب عليها من محاسن الأعمال، غير الله عندئذ ما بأنفسهم وسلب نعمته منهم، فصار الغني فقيرا، والعزيز ذليلا، والقوي ضعيفا. هذا هو الأصل المطرد في الأقوام والأمم، وهو كذلك في الأفراد إلا أنه غير مطرد فيهم لقصر أعمار كثير منهم دون تأثير التغيير حتى يصل إلى غايته.
إن للعقائد الدينية الصحيحة والخرافية آثارا في وحدة الأمة وتكافلها وقوة سلطانها أو ضعفه، ولا يظهر الفرق بينهما في الوجود إلا بوقوع التنازع بين أمتين مختلفتين فيها. وإن للأخلاق الشخصية التي يتحقق بكثرة بعضها ما يسمى خلقا للأمة أو الشعب مثل ذلك في حكمها وسلطانها وفي ثروتها وعزتها أيضا، ويظهر ذلك في سيرة كل أمة ودولة ذات تاريخ معروف...
ومن الغريب أن تكون هذه المسألة مما يغفل عنه أكثر المتعلمين في هذا العصر بعد اتساع نطاق علم الاجتماع وكثرة المصنفات فيه وكثرة ما يكتب في الصحف العامة في موضوع الأخلاق وتأثيرها في أحوال الأفراد والأمم، حتى قال غوستاف لوبون: أكثر الناس لا يفقهون هذا القول بل يجادلون في صحته: فالمسألة على كونها صارت معروفة للجماهير لا تزال موضع مراء وجدال عند الأكثرين، لأنها من مسائل العلم الصحيح العالي التي لا يفقهها إلا أصحاب البصيرة النافذة، والمعرفة الممحصة. ولو فقهها الجمهور لكان لها الأثر الصالح في أعماله. وإننا لنرى الألوف في بلادنا يتمثلون بقول أحمد شوقي بك أشهر شعراء العصر:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت *** فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
يتمثلون به معجبين لأنهم يفهمون مدلول ألفاظه وشرف موضوعه ولكن أكثرهم لا يفقهون حكمته التفصيلية العملية، وماذا يكون من تأثير فساد كل خلق من أخلاق الفضائل في الأعمال، ثم في ضعف الأمة وانحلالها ذلك الفقه الذي حققنا معناه في تفسير قوله تعالى من سورة الأعراف {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها} [الأعراف: 179] فراجعه مع بيان مراتب السماع والفهم من تفسير الآيات 19 21 من هذه السورة.
إن من الأخلاق ما لا يجادل أحد في حسنه في نفسه وفي استقامة المعاملات العامة في الأمة به كالصدق والأمانة والعدل، وإن امترى كثيرون أو ماروا في كونها دعائم أسباب النجاح والفلاح في المعيشة أو الترقي في مناصب الحكومة، ولكن قلما يجهل أحد من أذكياء هؤلاء الممترين في فساد الجماعة أو الشركة أو الحكومة التي يرتقي العامل فيها بالكذب، والخيانة والظلم، وإذا بلغ قوم هذه الغاية من الفساد ألفوه وعدوه من ضروريات الحياة ولم تعد قلوبهم تتوجه إلى الخروج منه بإصلاح ما بأنفسهم وإنما يتلافون من شره ما استطاعوا ببعض النظم والقوانين الصورية.
وإن من الأخلاق الكريمة ما صار الفاسدون يجادلون في حسنه وكونه من الفضائل التي يصلح بها حال الأفراد ويرتقي به مجموع الأمة، كالحياء والرحمة والعفة: يقولون إن الحياء ضعف في النفس وكذلك الرحمة، وهذا خطأ لا محل هنا لبيانه وهو قديم وإنما الجديد الذي لم يطرق مسامعنا قبل هذه الأيام هو المراء في فضيلة العفة، فإن دعاة الفساد الذي يسمونه تجديد الأمة قد اقترفوا هذه الجريمة ولا غرو فإن من أركانه عندهم تهتك النساء وامتزاجهن بالرجال في الملاعب والمراقص والمسارح والمسابح (مواضع السباحة في البحر) فقد كتب أحدهم في بعض الصحف الناشرة لدعايتهم أن العفة يختلف معناها باختلاف معارف الناس وعرفهم وأذواقهم في الحضارة، ومن ذلك أن المرتقين الآن لا يعدون رقص النساء مع الرجال منافيا للعفة ولا مخلا بها. ووثب كاتب آخر منهم وثبة أخرى فقال: إنه قد ظهر في هذا الزمان أن إرخاء العنان للشهوات البدنية لا يضر في الجسد ولا في النفس ولا يخل بالآداب، ولا يضعف الأمة عدم التزام الأديان والشرائع فيه قال المفسد قاتله الله: وقد ثبت هذا بالتجربة في الأمة الأميركانية فظهر به خطأ المتقدمين فيه، وهذا زعم باطل يتقرب به قائله إلى المسرفين من الفساق، ولا يزال الأطباء والحكماء مجمعين على هدم الإسراف في الشهوات لبناء البنية بما يولده من الضعف والأمراض، كما أنه مفسد للآداب والأخلاق.
مازال البشر يمارون في كل شيء حتى الحسيات والضروريات، وإنما الكلام المقبول في كل موضوع لعلماء أهله، ألم تر أنهم يمارون في مضار شرب الخمر ويدعون نفعها والأطباء المحققون يثبتون خلاف ذلك، يثبتون أن إثمها أكبر من نفعها وأن النفع القليل الخاص ببعض الأحوال المرضية قد يعارضه فيها نفسها من الضرر ما هو أقوى منه فيجعل ترك التداوي بها أولى إذا وجد أي شيء آخر يقوم مقامها.
إنني ذكرت في فاتحة هذا التفسير من الجزء الأول أن مسلك جريدة العروة الوثقى في الدعوة إلى الإصلاح الإسلامي من طريق إرشاد القرآن، وبيانه لسنن الله تعالى في الإنسان والأكوان، وقد فتح لي في فهم القرآن بابا لم يأخذ بحلقته أحد من المفسرين المتقدمين، وإني أختم هذا الفصل الاستطرادي بمقالة من مقالات تلك الجريدة افتتحه أستاذنا محررها رحمه الله بهذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها ليكون مصباحا للمفسرين والمرشدين والوعاظ يهتدون بضوئه وليعلم الفرق بين فهم هذا الإمام وأستاذه الحكيم للقرآن وبين أفهام المتقدمين الذين كانت حظوظهم من تفسير هذه الآية كتابة سطرين أو بضعة أسطر أكثرها في غير سبيل هدايتها. وهذا نص المقالة.
سنن الله في الأمم وتطبيقها على المسلمين
{إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد: 11]
{ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}.
تلك آيات الكتاب الحكيم، تهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولا يرتاب فيها إلا الضالون، هل يخلف الله وعده ووعيده وهو أصدق من وعد وأقدر من أوعد؟ هل كذب الله ورسله؟ هل ودع أنبياءه وقلاهم؟ هل غش خلقه وسلك بهم طريق الضلال؟ نعوذ بالله!! هل أنزل الآيات البينات لغوا وعبثا؟ هل افترت عليه رسله كذبا؟ هل اختلقوا عليه إفكا؟ هل خاطب الله عبيده برموز لا يفهمونها، وإشارات لا يدركونها؟ هل دعاهم إليه بما لا يعقلون؟ نستغفر الله! أليس قد أنزل القرآن عربيا غير ذي عوج، وفصل فيه كل أمر، وأودعه تبيانا لكل شيء؟ تقدست صفاته وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. هو الصادق في وعده ووعيده، ما اتخذ رسولا كذابا، ولا أتى شيئا عبثا، وما هدانا إلا سبيل الرشاد، ولا تبديل لآياته، تزول السماوات والأرض ولا يزول حكم من أحكام كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
يقول الله: {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} [الأنبياء:105] ويقول {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} [المنافقون: 8] قال {وكان حقا علينا نصر المؤمنين} [الروم: 47] وقال {ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا} [الفتح:28] هذا ما وعد الله في محكم الآيات مما لا يقبل تأويلا، ولا ينال هذه الآيات بالتأويل، إلا من ضل عن السبيل، ورام تحريف الكلم عن مواضعه. هذا عهده إلى تلك الأمة المرحومة، ولن يخلف الله عهده، وعدها بالنصر والعزة وعلو الكلمة، ومهد لها سبيل ما وعدها إلى يوم القيامة، وما جعل الله لمجدها أمدا، ولا لعزتها حدا.
هذه أمة أنشأها الله عن قلة، ورفع شأنها إلى ذروة العلى، حتى ثبتت أقدامها على قنن الشامخات، ودكت لعظمتها عوالي الراسيات، وانشقت لهيبتها مرائر الضاريات، وذابت للرعب منها أعشار القلوب، هال ظهورها الهائل كل نفس، وتحير في سببه كل عقل، واهتدى إلى السبب أهل الحق فقالوا: قوم كانوا مع الله فكان الله معهم، جماعة قاموا بنصر الله واسترشدوا بسنته فأمدهم بنصر من عنده. هذه أمة كانت في نشأتها فاقدة الذخائر، معوزة من الأسلحة وعدد القتال، فاخترقت صفوف الأمم واختطت ديارها، ولا دفعتها أبراج المجوس وخنادقهم، ولا صدتها قلاع الرومان ومعاقلهم، ولا عاقها صعوبة المسالك، ولا أثر في همتها اختلاف الأهوية، ولا فعل في نفوسها وغزارة الثروة عند من سواها، ولا راعها جلالة ملوكهم، وقدم بيوتهم، ولا تنوع صنائعهم، ولا سعة دائرة فنونهم، ولا عاق سيرها أحكام القوانين ولا تنظيم الشرائع، ولا تقلب غيرها من الأمم في فنون السياسة. وكانت تطرق ديار القوم فيحقرون أمرها، ويستهينون بها، وما كان يخطر ببال أحد أن هذه الشرذمة القليلة تزعزع أركان تلك الدول العظيمة وتمحو أسماءها من لوح المجد. وما كان يختلج بصدر أن هذه العصابة الصغيرة تقهر تلك الأمم الكبيرة وتمكن في نفوسها عقائد دينها، وتخضعها لأوامرها وعاداتها وشرائعها، ولكن كان كل ذلك، ونالت تلك الأمة المرحومة على ضعفها ما لم تنله أمة سواها. نعم قوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفاهم أجورهم مجدا في الدنيا، وسعادة في الآخرة.
هذه الأمة يبلغ عددها اليوم زهاء مائتي مليون من النفوس 30 وأراضيها آخذة من المحيط الأتلانتيكي إلى أحشاء بلاد الصين تربة طيبة، ومنابت خصبة، وديار رحبة، ومع ذلك نرى بلادنا منهوبة، وأموالها مسلوبة، تتغلب الأجانب على شعوب هذه الأمة شعبا شعبا، ويتقاسمون أراضيها قطعة بعد قطعة، ولم يبق لها كلمة تسمع، ولا أمر يطاع، حتى أن الباقين من ملوكها يصبحون كل يوم في ملمة، ويمسون في كربة مدلهمة، ضاقت أوقاتهم عن سعة الكوارث التي تلم بهم، وصار الخوف عليهم أشد من الرجاء لهم.
هذه هي الأمة التي كان الدول العظام يؤدين لها الجزية عن يد وهن صاغرات، استبقاء لحياتهن، وملوكها في هذه الأيام يرون بقاءهم في التزلف إلى تلك الدول الأجنبية. يا للمصيبة ويا للرزية!!
أليس هذا بخطب جلل، أليس هذا ببلاء نزل، ما سبب هذا الهبوط، وما علة هذا الانحطاط؟ هل نسيء الظن بالعهود الإلهية؟ معاذ الله! هل نستيئس من رحمة الله ونظن أن قد كذب علينا؟ نعوذ بالله! هل نرتاب في وعده بنصرنا بعدما أكده لنا؟ حاشاه سبحانه! لا كان شيء من ذلك ولن يكون، فعلينا أن ننظر لأنفسنا ولا لوم لنا إلا عليها، إن الله تعالى برحمته قد وضع لسير الأمم سننا متبعة ثم قال: {ولن تجد لسنة الله تبديلا} [الأحزاب: 62].
أرشدنا سبحانه في محكم آياته إلى أن الأمم ما سقطت من عرش عزها، ولا بادت ومحي اسمها من لوح الوجود إلا بعد نكوبها عن تلك السنن التي سنها الله على أساس الحكمة البالغة. إن الله لا يغير ما بقوم من عزة وسلطان ورفاهة وخفض عيش وأمن وراحة حتى يغير أولئك ما بأنفسهم من نور العقل وصحة الفكر، وإشراق البصيرة، والاعتبار بأفعال الله في الأمم السابقة، والتدبر في أحوال الذين جاروا عن صراط الله فهلكوا وحل بهم الدمار، ثم لعدولهم عن سنة العدل، وخروجهم عن طريق البصيرة والحكمة، حادوا عن الاستقامة في الرأي، والصدق في القول، والسلامة في الصدر، والعفة عن الشهوات، والحمية عن الحق، والقيامة بنصره، والتعاون على حمايته، خذلوا العدل ولم يجمعوا هممهم على إعلاء كلمته، واتبعوا الأهواء الباطلة، وانكبوا على الشهوات الفانية، وأتوا عظام المنكرات، غارت عزائمهم، فشحوا ببذل مهجهم في حفظ السنن العادلة، واختاروا الحياة في الباطلة على الموت في نصرة الحق، فأخذهم الله بذنوبهم وجعلهم عبرة للمعتبرين.
هكذا جعل الله بقاء الأمم ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها. سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال، كسنته تعالى في الخلق والإيجاد، وتقدير الأرزاق، وتحديد الآجال.
علينا أن نرجع إلى قلوبنا، ونمتحن مداركنا، ونسبر أخلاقنا، ونلاحظ مسالك سيرنا، لنعلم هل نحن على سيرة الذين سبقونا بالإيمان؟ هل نحن نقتفي أثر السلف الصالح؟ هل غير الله ما بنا قبل أن نغير ما بأنفسنا، وخالف فينا حكمه، وبدل في أمرنا سنته؟ حاشاه وتعالى عما يصفون، بل صدقنا الله وعده، حتى إذا فشلنا وتنازعنا في الأمر، وعصيناه من بعد ما أرى أسلافنا ما يحبون، وأعجبتنا كثرتنا فلم تغن عنا شيئا، فبدل عزنا بالذل، وسمونا بالانحطاط، وغنانا بالفقر، وسيادتنا بالعبودية. نبذنا أوامر الله ظهريا، وتخاذلنا عن نصره، فجازانا بسوء أعمالنا، ولم يبق لنا سبيل إلى النجاة والإنابة إليه. كيف لا نلوم أنفسنا ونحن نرى الأجانب عنا يغتصبون ديارنا ويستذلون أهلها ويسفكون دماء الأبرياء من إخواننا، ولا نرى في أحد منا حراكا؟
هذا العدد الوافر والسواد الأعظم من هذه الملة لا يبذلون في الدفاع عن أوطانهم وأنفسهم شيئا من فضول أموالهم، يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة، وكل واحد منهم يود لو يعيش ألف سنة، وإن كان غداؤه الذلة وكساؤه المسكنة، ومسكنه الهوان. تفرقت كلمتنا شرقا وغربا، وكاد يتقطع ما بيننا، لا يحن أخ لأخيه، ولا يهتم جار بشأن جاره، ولا يرقب أحدنا في الآخر إلا ولا ذمة، ولا نحترم شعائر ديننا، ولا ندافع عن حوزته، ولا نعززه بما نبذل من أموالنا وأرواحنا حسبما أمرنا.
أيحسب اللابسون لباس المؤمنين أن الله يرضى منهم بما يظهر على الألسنة ولا يمس سواد القلوب؟ هل يرضى منهم بأن يعبدوه على حرف؟ فإن أصابهم خير اطمأنوا به، وإن أصابتهم فتنة انقلبوا على وجوههم وخسروا الدنيا والآخرة؟ وهل ظنوا أن لا يبتلي الله ما في صدورهم، ولا يمحص ما في قلوبهم؟ ألا يعلمون أن الله لا يذر المؤمنين على ما هم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب؟ هل نسوا أن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم للقيام بنصره وإعلاء كلمته لا يبخلون في سبيله بمال، ولا يشحون بنفس؟ فهل لمؤمن بعد هذا أن يزعم نفسه مؤمنا وهو لم يخط خطوة في سبيل الإيمان، لا بماله ولا بروحه؟
إنما المؤمنون هم الذين إذا قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم لا يزيدهم ذلك إلا إيمانا وثباتا، ويقولون في إقدامهم: {حسبنا الله ونعم الوكيل} كيف يخشى الموت مؤمن وهو يعلم أن المقتول في سبيل الله حي يرزق عند ربه؟ ممتع بالسعادة الأبدية في نعمة من الله ورضوان، كيف يخاف مؤمن من غير الله؟ والله يقول: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [آل عمران: 175].
فلينظر كل إلى نفسه ولا يتبع وساوس الشيطان، وليمتحن كل واحد قلبه قبل أن يأتي يوم لا تنفع فيه خلة ولا شفاعة، وليطبق بين صفاته وبين ما وصف الله به المؤمنين، وما جعله من خصائص الإيمان، فلو فعل كل منا ذلك لرأينا عدل الله فينا واهتدينا.
يا سبحان الله، إن هذه أمتنا أمة واحدة، والعمل في صيانتها من الأعداء أهم فرض من فروض الدين عند حصول الاعتداء، يثبت ذلك نص الكتاب العزيز، وإجماع الأمة سلفا وخلفا، فما لنا نرى الأجانب يصولون على البلاد الإسلامية صولة بعد صولة، ويستولون عليها دولة بعد دولة، والمتسمون بسمة الإيمان آهلون لكل أرض متمكنون بكل قطر، ولا تأخذهم على الدين نعرة، ولا تستفزهم للدفاع عنه حمية؟
ألا يا أهل القرآن لستم على شيء حتى تقيموا القرآن، وتعملوا بما فيه من الأوامر والنواهي، وتتخذوه إماما لكم في جميع أعمالكم مع مراعاة الحكم في العمل كما كان سلفكم الصالح. ألا يا أهل القرآن هذا كتابكم فاقرؤوا منه (فإذا أنزلت سورة محكمة وذكر فيها القتال رأيت الذين في قلوبهم مرض ينظرون إليك نظر المغشي عليه من الموت) ألا تعلمون فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في وصف من لا إيمان لهم. هل يسر مؤمنا أن يتناوله هذا الوصف المشار إليه بالآية الكريمة؟ أو غر كثيرين من المدعين للإيمان ما زُين لهم من سوء أعمالهم، وما حسنته لديهم أهواؤهم {أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوبهم أقفالها} [محمد: 24].
أقول ولا أخشى نكيرا: لا يمس الإيمان قلب شخص إلا ويكون أول أعماله تقديم ماله وروحه في سبيل الإيمان، لا يراعي في ذلك عذرا ولا تعلة، وكل اعتذار في القعود عن نصرة الله فهو آية النفاق وعلامة البعد عن الله.
مع هذا كله نقول: إن الخير في هذه الأمة إلى يوم القيامة كما جاءنا نبأ النبوة، وهذا الانحراف الذي نراه اليوم نرجو أن يكون عارضا يزول، ولو قام العلماء الأتقياء وأدوا ما عليهم من النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين، وأحيوا روح القرآن، وذكروا المؤمنين بمعانيه الشريفة واستلفتوهم إلى عهد الله الذي لا يخلف لرأيت الحق يسمو والباطل يسفل، ولرأيت نورا يبهر الأبصار، وأعمالا تحار فيها الأفكار. وإن الحركة التي نحسها من نفوس المسلمين في أغلب الأقطار هذه الأيام تبشرنا بأن الله تعالى قد أعد النفوس لصيحة حق يجمع بها كلمة المسلمين، ويوحد بها بين الموحدين، ونرجو أن يكون العمل قريبا. فإن فعل المسلمون وأجمعوا أمرهم للقيام بما أوجب الله عليهم، صحت لهم الأوبة، ونصحت منهم التوبة، وعفا الله عنهم، والله ذو فضل على المؤمنين، فعلى العلماء أن يسارعوا إلى هذا الخير، وهو الخير كله: جمع كلمة المسلمين، والفضل كل الفضل لمن يبدأ منهم بالعمل و {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا} [الكهف:17] اه.
أقول: رحم الله محمدا عبده كاتب هذا الخطاب، ورحم الله السيد الأفغاني الذي فتح له ولنا هذا الباب: فهكذا فليكن التذكير بالقرآن {وما يذكر إلا أولوا الألباب} [البقرة: 269].
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد آتاهم الله من نعمته، ورزقهم من فضله، ومكن لهم في الأرض، وجعلهم خلائف فيها.. وهذا كله إنما يعطيه الله للناس ابتلاء منه وامتحاناً، لينظر أيشكرون أم يكفرون؟ ولكنهم كفروا ولم يشكروا؛ وطغوا وبغوا بما أعطوا، وغيرتهم النعمة والقوة فصاروا جبابرة وطواغيت كفرة فجرة.. وجاءتهم آيات الله فكفروا بها.. وعندئذ حقت عليهم سنة الله في أخذ الكافرين بعد أن تبلغهم آياته فيكذبوا بها.. وعندئذ غير الله النعمة، وأخذهم بالعذاب، ودمر عليهم تدميراً
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وهذا إنذار لقريش يحلّ بهم مثل ما حَلّ بغيرهم من الأمم الذين بطروا النعمة. {لم يك مغيراً} مؤذن بأنّه سنة الله ومقتضى حكمته، لأنّ نفي الكون بصيغة المضارع يقتضي تجدد النفي ومنفيّه. ووصف النعمة ب {أنعمها على قوم} للتذكير بأنّ أصل النعمة من الله.والمراد بهذا التغيير تغيير سببه. وهو الشكر بأن يبدلوه بالكفران. وذكر صفة {سميع} قبل صفة {عليم} يومىء إلى أن التغيير الذي أحدثه المعرَّض بهم متعلّق بأقوالهم وهو دعوتهم آلهة غير الله تعالى.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وتلك هي سنّة الله في عباده، فإن نعم الله التي ينزلها على عباده، في ما تقتضيه رحمته وحكمته، لا تتغير ولا تتبدّل ما دامت النيات خالصةً، والخطوات مستقيمة على النهج الذي يحبه الله ويرضاه، فلا ينزل عذابه في الدنيا، ولا عقابه في الآخرة، إلا بعد أن يغيروا ما بأنفسهم، في ما يواجهون به الأنبياء والدعاة إلى الله من جحودٍ وكفرانٍ وتمرّدٍ وعصيانٍ، وما يفسدون به الحياة بعد إصلاحها، ولذلك فإن الأمم السابقة لم تتعرض للعذاب أو للبلاء، إلاّ بعد وصولها إلى المدى الذي يمثل الخطورة على مسيرة الإيمان والمؤمنين في ما يواجهونه من التحديات والتعديات في هذا المجال.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...وبعبارة أُخرى: إنّ الرحمة الرّبانيّة عامّة تسع جميع الخلق، لكنّها تبلغُ الناس وتصل إليهم بما يناسب كفاءتهم وشأنهم، فإنّ الله سبحانه يغدق مبتدئاً بنعمه الماديّة والمعنويّة على جميع الأُمم، فإذا استفادوا من تلك النعم في السير نحو الكمال والاستمداد منها في سبيل الحق تعالى والشكر على نعمائه، بالإِفادة منها إفادةً صحيحة، فإنّ الله سبحانه سيثّبت نعماءه ويزيدها. أمّا إذا استغلت تلك المواهب في سبيل الطغيان والانحراف والعنصرية، وكفران النعمة والغرور والفساد، فإنّ الله سيسلبهم تلك النعم أو يُبدلها إِلى بلاء ومصيبة بناءً على ذلك فإنّ التغيير يكون من قِبلنا دائماً، وإلاّ فإنّ النعماء الإِلهية لا تزول!