ثم ساق لهم - سبحانه - ما يؤكد عدم تغيير سنته فى خلقه ، بأن حضهم على الاعتبار بأحوال المهلكين من قبلهم ، والذين يرون بأعينهم آثارهم ، فقال - تعالى - : { أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ وكانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } .
أى أعمى هؤلاء الماكرين عن التدبر ، ولم يسروا فى الأرض ، فتيروا بأعينهم فى رحلاتهم إلى الشام أو إلى اليمن أو إلى غيرهما ، كيف كانت عاقبة المكذبين من قبلهم ، لقد دمرناهم تدميرا ، مع أنهم كانوا أشد من مشركى مكة قوة ، وأكثر جمعا { وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } أى وما كان من شأن الله - تعالى - أن يعجزه شئ من الأشياء ، سواء أكان فى السماوات أم فى الأرض . بل كل شئ تحت أمره وتصرفه .
{ إِنَّهُ } - سبحانه - { كَانَ عَلِيماً } بكل شئ { قَدِيراً } على كل شئ .
والأمور لا تمضي في الناس جزافاً ؛ والحياة لا تجري في الأرض عبثاً ؛ فهناك نواميس ثابتة تتحقق ، لا تتبدل ولا تتحول . والقرآن يقرر هذه الحقيقة ، ويعلمها للناس ، كي لا ينظروا الأحداث فرادى ، ولا يعيشوا الحياة غافلين عن سننها الأصيلة ، محصورين في فترة قصيرة من الزمان ، وحيز محدود من المكان . ويرفع تصورهم لارتباطات الحياة ، وسنن الوجود ، فيوجههم دائماً إلى ثبات السنن واطراد النواميس . ويوجه أنظارهم إلى مصداق هذا فيما وقع للأجيال قبلهم ؛ ودلالة ذلك الماضي على ثبات السنن واطراد النواميس .
وهذه الجولة الخامسة نموذج من نماذج هذا التوجيه بعد تقرير الحقيقة الكلية من أن سنة الله لا تتبدل ولا تتحول :
أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض . إنه كان عليماً قديراً .
والسير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ ؛ والوقوف على مصارع الغابرين ، وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه . . كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى . .
ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين ، وآثار الذاهبين . وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها ، فلا تقف . وإذا وقفت لا تحس . وإذا أحست لا تعتبر . وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة . وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية . وهي الميزة التي تميز الإنسان المدرك من الحيوان البهيم ، الذي يعيش حياته منفصلة اللحظات والحالات ؛ لا رابط لها ، ولا قاعدة تحكمها . والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس .
وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم - وكانوا أشد منهم قوة - فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم . أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى . القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء ؛ والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين :
( وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض ) . .
ويعقب على هذه الحقيقة بما يفسرها ويعرض اسانيدها :
يحيط علمه بكل شيء في السماوات والأرض ؛ وتقوم قدرته إلى جانب علمه . فلا يند عن علمه شيء ، ولا يقف لقدرته شيء . ومن ثم لا يعجزه شيء في السماوات ولا في الأرض . ولا مهرب من قدرته ولا استخفاء من علمه : ( إنه كان عليماً قديراً ) . .
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به من الرسالة : سيروا في الأرض ، فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل ؟ كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، فَخُلِيَتْ منهم منازلهم ، وسلبوا ما كانوا فيه من النَّعَم بعد كمال القوة ، وكثرة العدد والعُدَد ، وكثرة الأموال والأولاد ، فما أغنى ذلك شيئا ، ولا دفع{[24639]} عنهم من عذاب الله من شيء ، لما جاء أمر ربك لأنه تعالى لا يعجزه شيء ، إذا أراد كونه في السموات والأرض ؟ { إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا } أي : عليم بجميع الكائنات ، قدير على مجموعها .
لما توعدهم تعالى في الآية قبلها بسنة الأولين وأن الله تعالى لا يبدلها في الكفرة ، وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره كديار ثمود ونحوها ، و «يعجزه » معناه يفوته ويفلته ، و { من } في قوله تعالى : { من شيء } زائدة مؤكدة ، و «عليم قدير » صفتان لائقتان بهذا الموضع ، لأن مع العلم والقدرة لا يتعذر شيء .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} عاد، وثمود، وقوم لوط
{وكانوا أشد منهم قوة} بطشا، فأهلكناهم.
{وما كان الله ليعجزه} ليفوته {من شيء} من أحد، كقوله عز وجل: {وإن فاتكم شيء من أزواجكم} [الممتحنة:11].
{في السماوات ولا في الأرض} فيفوته أحد كان في السماوات أو في الأرض حتى يجزيه بعمله.
{إنه كان عليما} بهم {قديرا} في نزول العذاب بهم إذا شاء.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أو لم يَسِرْ يا محمد هؤلاء المشركون بالله، في الأرض التي أهلكنا أهلها بكفرهم بنا وتكذيبهم رسلنا، فإنهم تجار يسلكون طريق الشأم "فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ "من الأمم التي كانوا يمرون بها ألم نهلكهم ونخربْ مساكنهم ونجعلْهم مثلاً لمن بعدهم، فيتعظوا بهم، وينزجروا عما هم عليه من عبادة الآلهة بالشرك بالله، ويعلموا أن الذي فعل بأولئك ما فعل، "وكانُوا أشَدّ مِنْهُمْ قُوّةً وَبَطْشا" لن يتعذّر عليه أن يفعل بهم مثل الذي فعل بأولئك من تعجيل النقمة، والعذاب لهم...
وقوله: "وَما كانَ اللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السّمَوَاتِ وَلا فِي الأرْضِ" يقول تعالى ذكره: ولن يعجزنا هؤلاء المشركون بالله من عبدة الآلهة، المكذّبون محمدا فيسبقونا هربا في الأرض، إذا نحن أردنا هلاكهم، لأن الله لم يكن ليعجزه شيء يريده في السموات ولا في الأرض، ولن يقدر هؤلاء المشركون أن ينفُذوا من أقطار السموات والأرض. وقوله: "إنّهُ كانَ عَلِيما قَدِيرا" يقول تعالى ذكره: إن الله كان عليما بخلقه، وما هو كائن، ومن هو المستحقّ منهم تعجيل العقوبة، ومَن هو عن ضلالته منهم راجع إلى الهدى آئب، "قديرا" على الانتقام ممن شاء منهم، وتوفيق من أراد منهم للإيمان.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم} يُخرّج على وجوه: أحدها: قد ساروا في الأرض، وانظروا إلى ما حلّ بأولئك بالتكذيب والعناد. لكن لم يتّعظوا بهم، ولم ينفعهم ذلك.
الثاني: أنهم، وإن ساروا في الأرض، ونظروا في آثارهم، لم ينفعهم ذلك.
{وكانوا أشد منهم قوة} أي إنهم كانوا أكثر عددا وأشد قوة وبطشا منكم، ثم لم يمكّن لهم دفع ما نزل بهم، وحلّ، فأنتم يا أهل مكة مع قلة عددكم وضعفكم لا تقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم.
{وما كان الله ليُعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض} الإعجاز في الشاهد يكون بوجهين:
أحدهما: الامتناع، يقول: لا يسبق أحد أن يمتنع عنه ومن عذابه.
والثاني: القهر والغلبة، يقول: لا يُسبَق منه بالقهر والغلبة. بل هو القاهر والغالب على خلقه...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
في الجملة ما خاب له وليٌّ، وما ربح له عدوٌّ، ولا ينال الحقيقةَ مَنْ انعكس قَصْدُه، بل يرتدُّ عليه كَيْدُه؛ وهو سبحانه يُدَمِّر على أعدائه تدميراً ويوسع لأوليائه فضلاً كبيراً...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
لما توعدهم تعالى في الآية قبلها بسنة الأولين وأن الله تعالى لا يبدلها في الكفرة، وقفهم في هذه الآية على رؤيتهم لما رأوا من ذلك في طريق الشام وغيره كديار ثمود ونحوها.
«عليم قدير» صفتان لائقتان بهذا الموضع، لأن مع العلم والقدرة لا يتعذر شيء.
{وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا} يحتمل وجهين: الثاني: أن يكون قطعا لأطماع الجهال فإن قائلا لو قال: هب أن الأولين كانوا أشد قوة وأطول أعمارا لكنا نستخرج بذكائنا ما يزيد على قواهم ونستعين بأمور أرضية لها خواص أو كواكب سماوية لها آثار، فقال تعالى: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض إنه كان عليما} بأفعالهم وأقوالهم: {قديرا} على إهلاكهم واستئصالهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله {كيف كان عاقبة} أي آخر أمر {الذين} ولما كان عواقب الدمار في بعض ما مضى من الزمان، أثبت الجار فقال: {من قبلهم} أي على أيّ حالة كان أخذهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم.
ولما كان السياق لاتصافهم بقوتي الظاهر من الاستكبار والباطن من المكر الضار، مكّن قوة الذين خوفهم بمثل مآلهم بوصفهم بالأشدية في جملة حالية فقال: {وكانوا} أي أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا والحال أنهم كانوا {أشد منهم} أي من هؤلاء {قوة} في قوتي الاستكبار والمكر الجارّ بعد العار إلى النار.
ولما كان التقدير: فما أعجز الله أمر أمة منهم، ولا أمر أحد من أمة حين كذبوا رسولهم، عطف عليه قوله، مؤكداً إشارة إلى تكذيب الكفرة في قطعهم بأن دينهم لا يتغير، وأنهم لا يغلبون أبداً لما لهم من الكثرة والمكنة وما للمسلمين من القلة والضعف: {وما كان الله} أي الذي له جميع العظمة؛ وأكد الاستغراق في النفي بقوله: {ليعجزه} أي مريداً لأن يعجزه، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى! وأبلغ في التأكيد بقوله: {من شيء} أي قل أو جل! وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله: {في السماوات} أي جهة العلو، وأكد بإعادة النافي فقال: {ولا في الأرض} أي جهة السفل.
ولما كان منشأ العجز الجهل، علل بقوله مؤكداً لما ذكر في أول الآية: {إنه كان} أي أزلاً وأبداً {عليماً} أي شامل العلم {قديراً} أي كامل القدرة، فلا يريد شيئاً إلا كان...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
السير في الأرض بعين مفتوحة وقلب يقظ؛ والوقوف على مصارع الغابرين، وتأمل ما كانوا فيه وما صاروا إليه.. كل أولئك خليق بأن تستقر في القلب ظلال وإيحاءات ومشاعر وتقوى.. ومن ثم هذه التوجيهات المكررة في القرآن للسير في الأرض والوقوف على مصارع الغابرين، وآثار الذاهبين، وإيقاظ القلوب من الغفلة التي تسدر فيها، فلا تقف، وإذا وقفت لا تحس، وإذا أحست لا تعتبر؛ وينشأ عن هذه الغفلة غفلة أخرى عن سنن الله الثابتة، وقصور عن إدراك الأحداث وربطها بقوانينها الكلية، والجنس البشري كله وحدة أمام وحدة السنن والنواميس، وأمام هذه الوقفة التي يقفهم إياها على مصارع الغابرين قبلهم -وكانوا أشد منهم قوة- فلم تعصمهم قوتهم من المصير المحتوم.
أمام هذه الوقفة يوجه حسهم إلى قوة الله الكبرى، القوة التي لا يغلبها شيء ولا يعجزها شيء؛ والتي أخذت الغابرين وهي قادرة على أخذهم كالأولين: (وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض).
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجيء بهذه الحال في هذه الآية لما يفيده موقع الحال من استحضار صورة تلك القوة إيثاراً للإِيجاز لاقتراب ختم السورة؛ ولذلك لم يؤت في نظائرها بجملة الحال ولكن أتى فيها بجملة وصفٍ في قوله في سورة غافر (21)... حيث أوثر فيهما الإِطناب بتعداد بعض مظاهر تلك القوة، لما عَرَض وصف الأمم السابقة بأنهم أشد قوة من قريش في معرض التمثيل بالأولين، تهديداً واستعداداً لتلقّي مثل عذابهم، أتبع ذلك بالاحتراس عن الطماعية في النجاة من مثل عذابهم بعلة أن لهم من المنجيات ما لم يكن للأمم الخالية كزعمهم: أن لهم آلهة تمنعهم من عذاب الله بشفاعتها أو دفاعها فقيل: {وما كان الله ليعجزه من شيء في السماوات ولا في الأرض}...
الاستفهام في {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ..} استفهام يفيد التعجُّب، يعني: كيف يكون منهم هذا {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} أي من المكذِّبين الذين أخذهم الله {وَكَانُوۤاْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً}.
كما قال سبحانه في موضع آخر: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وَبِالَّيلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} [الصافات: 137-138].
نعم، كانوا في حركة حياتهم وفي أسفارهم يمرُّون على قُرى عَادٍ وثمود، وقوم لوط وقوم صالح.. الخ وكانوا يروْنَ آثارهم وما حَاق بهم من الدمار والخراب بعد أنْ كذَّبوا رسلهم، وكانوا أصحاب حضارات وعمارة وقصور لا مثيل لها... والعجيب أن أصحاب هذه الحضارات التي جابت سمعتُها الآفاق لم يستطيعوا أن يضعوا لحضاراتهم ما يصونها من الاندثار.
ولنا ملحظ في قوله سبحانه: {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ}.
فمنذ عهد قريب كنا نعتقد أن السير في الأرض يعني على الأرض؛ لأننا نسير عليها لا فيها، إلى أن اكتشفنا أن الأرض فيها الأقوات، وسيد الأقوات الهواء، بدليل أنك تصبر على الماء لعدة أيام، وتصبر أكثر منها على الطعام، لكنك لا تصبر على الهواء إلا بمقدار شهيق أو زفير، لو حُبس عنك لفارقتَ الحياة.
وعرفنا أن هواء الأرض من الأرض؛ لذلك يدور معها ويرتبط بها إذن: نحن بهذا المعنى لا نسير على الأرض، إنما نسير فيها، حتى الذي يحلق بالطائرة في طبقات الجو العليا أيضاً يسير في الأرض؛ لأن الهواء من الأرض، وهو أصل قوامها نفساً وقوتاً...
الحق سبحانه وتعالى في هذه الآية {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ..} يريد من الكفار أنْ ينظروا إلى مواقع الحياة، لا إلى كلامنا، ولا إلى كلامهم، بل واقع الحياة المشَاهَد، فقال {أَوَلَمْ يَسِيرُواْ} لأنهم ساروا بالفعل؛ لأنهم كانوا أمة لها تجارة في الصيف إلى الشمال، وفي الشتاء إلى الجنوب.
وفي هذه الأسفار رأوا الكثير من آثار مَنْ سبقهم، فهل رأوا في السابقين رسولاً هُزِم من المكذبين به؟ لقد هزم الله المكذبين والكافرين، وكتب النصر للمؤمنين الصادقين، وهؤلاء الذين أخذهم الله كانوا أشدَّ منهم قوةً، لكنها قوة البشر مهما بلغتْ من التقدم ماذا تفعل أمام قوة الله، فلا تنظر إلى قوة الرسول، لكن انظر إلى قوة مَنْ أرسله، ومَنْ تكفَّل بحفظه ونصرته.
إذن: هذه معركة ليست بين خَلْق وخَلْق، إنما بين خَلْق معاندين للخالق سبحانه، فهل تُعجِزون الله؟ لذلك ينفي الحق سبحانه أنْ يكونوا معجزين، وينفي أن يكونوا معاجزين، وفَرْق بين الاثنين: معجز إنْ أعجزه ولو مرة يعني: أتى بما يعجزه، إنما مُعاجز فيها مشاركة ومفاعلة، كأن الإعجاز كان بينهما سِجَال، وفيه أَخْذ ورَدٌّ.
فكأن الحق سبحانه يُملي لهم ويمهلهم، فيجعل لهم الغَلَبة، في بعض الجَوْلات ليستنفد كل أنواع الحيل، ويستنفد كل قُواهم، إذن: مهما كانت قوتكم، ومهما استعنتُم وتقوَّيتم بحضارات أخرى فلن تُعجزوا الله؛ لأن الله تعالى لا يُعجزه شيء، وليس له سبحانه شريك أو مقابل يساعدكم، فهو إله واحد يساعد المؤمنين به وينصرهم، وأنتم لا ناصرَ لكم، والحق سبحانه أهلك المكذِّبين قبلكم، وكانوا أشد منكم قوةً، والذي يقدر على الأشدِّ أقدر من باب أَوْلَى على الأضعف.
والحق سبحانه وتعالى حين يريد أنْ يؤكد أمراً واقعياً من الممكن أنْ يأتي به في صورة الخبر، فيقول: لقد ساروا في الأرض، ورأوا كذا وكذا، لكن عدل عن الخبر هنا إلى الاستفهام، يعني: اسألوهم أساروا أم لم يسيروا؟
والحق سبحانه لا يسأل هذا السؤال إلا وهو واثق أنهم سيقولون سِرْنا، وهذا يؤكد الكلام؛ لأنه إقرار من المخاطب نفسه، كما أن الاستفهام بالنفي أقوى في تقرُّر المخاطب من الاستفهام بالإثبات.
ومسألة السير في الأرض أخذتْ حظاً واسعاً من القرآن الكريم؛ لأن الله تعالى يريد من الناس أنْ ينظروا إلى الآيات الكونية، وأنْ يتأملوا في الكون ليقفوا على أسراره، وعلى دلائل القدرة فيه؛ لذلك يأمرنا الحق سبحانه مرّة بقوله: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ} [النمل: 69] ومرة: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُواْ} [الأنعام: 11].
قالوا: السير في الأرض يكون إما للنظر والاعتبار وإما للاستثمار، فقوله تعالى: {فَانظُرُواْ} [النمل: 69] للسير المراد منه الاعتبار والتأمل في آيات الله، وفي هندسة الكون العجيبة التي تدلُّنا على قدرة الخالق سبحانه.
أما قوله: {ثُمَّ انْظُرُواْ} [الأنعام: 11] فهي للسير الذي يُرَاد منه العمل والاستثمار وطلب الرزق، فحتى إنْ سِرْتَ في أنحاء الأرض طلباً للرزق وللاستثمار لا تَنْسَ ولا تغفل عن الاعتبار وعن التأمل، ولا تحرم نفسك من النظر في الآيات وفي مُلْك الله الواسع، خاصة إذا اختلفتْ البيئات...
ثم يقول سبحانه: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَٰوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} سبق أنْ تكلَمنا في معنى يُعجِزه، الآية هنا لا تنفي أن شيئاً في السماوات أو في الأرض يُعجِز الحق سبحانه، إنما تنفي مجرد أنْ يكون هذا أو يُتصوَّر، فهذا أمر لا يُتصور ولا يكون أصلاً.
وقوله: {مِن شَيْءٍ} من هنا تنصُّ على العموم يعني: من بداية ما يقال له شيء كما تقول: ما عندي مال، فيجوز أنْ يكون لديك مال، لكن قليل لا يُعْتَدُّ به، فإنْ قلتَ: ما عندي من مال فقد نفيتَ وجود كل ما يُقال له مال، مهما كان قليلاً ولو قرشاً واحداً.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً} يُبيِّن علة أنه سبحانه لا يُعجزه شيء، فالله تعالى عليم بعلم محيط لا يعزب عنه شيء، فإن بيَّتوا شيئاً علمه الله وعلم مكانه، ثم هو سبحانه قدير، عالم بقدرة، وهذان هما عُنْصرا الغَلَبة العلم والقدرة، تعلم الشيء وتقدر أنْ تردَّه.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ورد شبيه هذا المعنى في سورة يوسف 109، والحجّ 46، وغافر 21 و82، والأنعام 11 إلى غير ذلك، هذا التأكيد المتكرّر دليل على التأثير الخاصّ لتلك المشاهدات في النفس الإنسانية، فإنّ عليهم أن يروا بأعينهم ما قرأوه في التأريخ أو سمعوه، ليذهبوا وينظروا عروش الفراعنة المحطّمة، وقصور الأكاسرة المدمّرة، وقبور القياصرة الموحشة، وعظام نمرود المتفسّخة، وأرض قوم لوط وثمود الخالية، ثمّ ليستمعوا إلى نصائحهم الصامتة، وأنينهم من تحت التراب، وينظروا بأمّ أعينهم ماذا حلّ بهؤلاء.