نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{أَوَلَمۡ يَسِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَيَنظُرُواْ كَيۡفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَكَانُوٓاْ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةٗۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعۡجِزَهُۥ مِن شَيۡءٖ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَلَا فِي ٱلۡأَرۡضِۚ إِنَّهُۥ كَانَ عَلِيمٗا قَدِيرٗا} (44)

ولما بيّن أن حالهم موجب ولا بد للإيقاع بهم لما ثبت من أيام الله ، وأنكر ذلك عليهم ، وكان التقدير : ألم يسمعوا أخبار الأولين المرة وأحوالهم المستمرة من غير تخلف اصلاً في أن من كذب رسولاً أخذ ، فقال عاطفاً عليه استشهاداً على الخبر عن سنته في الأولين بما يذكر من آثارهم : { أولم يسيروا } أي فيما مضى من الزمان { في الأرض } أي التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق { فينظروا } أي فيتسبب لهم عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام ، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عنه ما جرى من مقاله ، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله { كيف كان عاقبة } أي آخر أمر { الذين } ولما كان عواقب الدمار في بعض ما مضى من الزمان ، أثبت الجار فقال : { من قبلهم } أي على أيّ حالة كان أخذهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم ، وهذا معنى آية يس

{ أنهم إليهم لا يرجعون }[ يس : 31 ] سواء كما يأتي أن شاء الله تعالى بيانه . ولما كان السياق لاتصافهم بقوتي الظاهر من الاستكبار والباطن من المكر الضار ، مكّن قوة الذين خوفهم بمثل مآلهم بوصفهم بالأشدية في جملة حالية فقال : { وكانوا } أي أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا والحال أنهم كانوا { أشد منهم } أي من هؤلاء { قوة } في قوتي الاستكبار والمكر الجارّ بعد العار إلى النار .

ولما كان التقدير : فما أعجز الله أمر أمة منهم ، ولا أمر أحد من أمة حين كذبوا رسولهم ، وما خاب له ولي ولا ربح له عدو ، عطف عليه قوله ، مؤكداً إشارة إلى تكذيب الكفرة في قطعهم بأن دينهم لا يتغير ، وأنهم لا يغلبون أبداً لما لهم من الكثرة والمكنة وما للمسلمين من القلة والضعف : { وما كان الله } أي الذي له جميع العظمة ؛ وأكد الاستغراق في النفي بقوله : { ليعجزه } أي مريداً لأن يعجزه ، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى ! وأبلغ في التأكيد بقوله : { من شيء } أي قل أو جل ! وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله : { في السماوات } أي جهة العلو ، وأكد بإعادة النافي فقال : { ولا في الأرض } أي جهة السفل . ولما كان منشأ العجز الجهل ، علل بقوله مؤكداً لما ذكر في أول الآية : { إنه كان } أي أزلاً وأبداً { عليماً } أي شامل العلم { قديراً * } أي كامل القدرة ، فلا يريد شيئاً إلا كان .