ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بأمر النبى صلى الله عليه وسلم بالصبر على هؤلاء الجاهلين ، فقال : { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } .
أى : إذا كان الأمر وصفنا لك من أحوال هؤلاء المشركين ، فاصبر على أذاهم ، وعلى جهالاتهم ، فإن وعد الله - تعالى - بنصرك عليهم حق لا شك فى ذلك .
{ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ } أى : ولا يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر ، الذين لا يوقنون صحة ما تتلوا عليهم من آيات ، ولا بما يزعجنك ويحملنك على عدم الصبر ، الذين لا يوقنون بصحة ما تتلوا عليهم من آيات ، ولا بما تدعوهم إليه من رشد وخير .
وهكذا ختمت السورة الكريمة بالوعد بالنصر ، كما افتتحت بالوعد به ، للمؤمنين الصادقين { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } وبعد : فهذه هى سورة الروم ، وهذا تفسير محرر لها ، نسأل الله - تعالى - أن يجعله خالصاً لوجهه نافعاً لعباده .
ثم يأتي الإيقاع الأخير في السورة بعد تلك الجولات مع المشركين في الكون والتاريخ وفي ذوات أنفسهم وفي أطوار حياتهم ، ثم هم بعد ذلك كله يكفرون ويتطاولون . . يأتي الإيقاع الأخير في صورة توجيه لقلب الرسول [ صلى الله عليه وسلم ] ومن معه من المؤمنين :
( فاصبر إن وعد الله حق ، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون ) . .
إنه الصبر وسيلة المؤمنين في الطريق الطويل الشائك الذي قد يبدو أحيانا بلا نهاية ! والثقة بوعد الله الحق ، والثبات بلا قلق ولا زعزعة ولا حيرة ولا شكوك . . الصبر والثقة والثبات على الرغم من اضطراب الآخرين ، ومن تكذيبهم للحق وشكهم في وعد الله . ذلك أنهم محجوبون عن العلم محرومون من أسباب اليقين . فأما المؤمنون الواصلون الممسكون بحبل الله فطريقهم هو طريق الصبر والثقة واليقين . مهما يطل هذا الطريق ، ومهما تحتجب نهايته وراء الضباب والغيوم !
وهكذا تختم السورة التي بدأت بوعد الله في نصر الروم بعد بضع سنين ، ونصر المؤمنين . تختم بالصبر حتى يأتي وعد الله ؛ والصبر كذلك على محاولات الاستخفاف والزعزعة من الذين لا يوقنون .
فيتناسق البدء والختام . وتنتهي السورة وفي القلب منا إيقاع التثبيت القوي بالوعد الصادق الذي لا يكذب ، واليقين الثابت الذي لا يخون . .
{ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ } أي : اصبر على مخالفتهم وعنادهم ، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك من نصره إياك ، وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة ، { وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ } أي : بل اثبت على ما بعثك الله به ، فإنه الحق الذي لا مرية فيه ، ولا تعدل عنه وليس فيما سواه هُدَى يتبع ، بل الحق كله منحصر فيه .
قال سعيد عن قتادة : نادى رجل من الخوارج عليا ، رضي الله عنه ، وهو في الصلاة – صلاة الغداة - فقال : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [ الزمر : 65 ] ، فأنصت له علي حتى فهم ما قال ، فأجابه وهو في الصلاة : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ } . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم . وقد رواه ابن جرير من وجه آخر فقال :
حدثنا ابن وَكِيع ، حدثنا يحيى بن آدم ، عن شَرِيك ، عن عثمان بن أبي زُرْعَة ، عن علي بن ربيعة قال : نادى رجل من الخوارج عليا وهو في صلاة الفجر ، فقال : { وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ، فأجابه علي وهو في الصلاة : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ }{[22912]} .
طريق أخرى : قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا علي بن الجَعْد ، أخبرنا شريك ، عن عمران بن ظَبْيان ، عن أبي تحيا قال : صلى علي{[22913]} رضي الله عنه ، صلاة الفجر ، فناداه رجل من الخوارج : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ } ، فأجابه علي{[22914]} ، وهو في الصلاة : { فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ } .
[ ما روي في فضل هذه السورة الشريفة ، واستحباب قراءتها في الفجر ]{[1]} :
قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن جعفر ، عن شعبة ، عن عبد الملك بن عمير ، سمعت شبيب - أبا روح - يحدِّث عن رجل{[2]} من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ، فقرأ فيها الرّوم فأوهم ، فقال : «إنه يلبس علينا القرآن ، فإن أقواما منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا فليحسن الوضوء »{[3]} .
وهذا إسناد حسن ومتن حسن{[4]} وفيه سر عجيب ، ونبأ غريب ، وهو أنه ، عليه السلام{[5]} تأثر بنقصان وضوء من ائتم به ، فدل ذلك أن صلاة المأموم متعلقة{[6]} بصلاة الإمام .
[ آخر تفسير سورة " الروم " ]{[7]} . _
{ فاصبر } على أذاهم . { إن وعد الله } بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله . { حق } لا بد من إنجازه . { ولا يستخفنك } ولا يحملنك على الخفة والقلق . { الذين لا يوقنون } بتكذيبهم وإيذائهم فإنهم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك . وعن يعقوب بتخفيف النون ، وقرئ " ولا يستحقنك " أي لا يزيغنك فيكونوا أحق بك مع المؤمنين .
الأمر للنبيء صلى الله عليه وسلم بالصبر تفرع على جملة { ولئن جِئْتَهم بآية } [ الروم : 58 ] لتضمنها تأييسه من إيمانهم . وحذف متعلق الأمر بالصبر لدلالة المقام عليه ، أي اصبر على تعنتهم . وجملة { إن وعد الله حق } تعليل للأمر بالصبر وهو تأنيس للنبيء صلى الله عليه وسلم بتحقيق وعد الله من الانتقام من المكذبين ومن نصر الرسول عليه الصلاة والسلام .
والحق : مصدر حَقّ يحِقّ بمعنى ثبت ، فالحق : الثابت الذي لا ريب فيه ولا مبالغة .
والاستخفاف : مبالغة في جعله خفيفاً فالسين والتاء للتقوية مثلها في نحو : استجاب واستمسك ، وهو ضد الصبر . والمعنى : لا يحملُنّك على ترك الصبر . والخفة مستعارة لحالة الجزع وظهور آثار الغضب . وهي مثل القلق المستعار من اضطراب الشيء لأن آثار الجزع والغضب تشبه تقلقل الشيء الخفيف ، فالشيء الخفيف يتقلقل بأدنى تحريك ، وفي ضده يستعار الرسوخ والتثاقل . وشاعت هذه الاستعارات حتى ساوت الحقيقة في الاستعمال .
ونهي الرسول عن أن يستخفه الذين لا يوقنون نهي عن الخفة التي من شأنها أن تحدث للعاقل إذا رأى عناد من هو يرشده إلى الصلاح ، وذلك مما يستفز غضب الحليم ، فالاستخفاف هنا هو أن يؤثروا في نفسه ضد الصبر ، ويأتي قوله تعالى { فاستَخَفّ قومَه فأطاعوه } في سورة الزخرف ( 54 ) ، فانظره إكمالاً لما هنا . وأسند الاستخفاف إليهم على طريقة المجاز العقلي لأنهم سببه بما يصدر من عنادهم .
والذين لا يوقنون : هم المشركون الذين أجريت عليهم الصفات المتقدمة من الإجرام ، والظلم ، والكفر ، وعدم العلم ؛ فهو إظهار في مقام الإضمار للتصريح بمساويهم . قيل : كان منهم النضر بن الحارث . ومعنى { لا يوقنون } أنهم لا يوقنون بالأمور اليقينية ، أي التي دلت عليها الدلائل القطعية فهم مكابرون .