ثم ختم - سبحانه - قصتهم بقوله : { كَذَلِكَ العذاب } أى : مثل الذى بلونا به أصحاب الجنة ، من إهلاك جنتهم بسبب جحودهم لنعمنا . . يكون عذابنا لمن خالف أمرنا من كبار مكة وغيرهم .
فقوله : { كَذَلِكَ } خبر مقدم { العذاب } مبتدأ مؤخر . والمشار إليه هو ما تضمنته القصة من إتلاف تلك الجنة ، وإذهاب ثمارها .
وقدم المسند وهو الخبر ، على المسند إليه وهو المبتدأ ، للاهتمام بإحضار تلك الصورة العجيبة فى ذهن السامع .
وقوله : { وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يدل على أن المراد بالعذاب السابق عذاب الدنيا .
أى : مثل ذلك العذاب الذى أنزلناه بأصحاب الجنة فى الدنيا ، يكون عذابنا لمشركى قريش ، أما عذاب الآخرة فهو أشد وأبقى وأعظم . . ولو كانوا من أهل العلم والفهم ، لعلموا ذلك ، ولأخذوا منه حذرهم عن طريق الإِيمن والعمل الصالح . هذا ، والمتأمل فى هذه القصة ، يراها زاخرة بالمفاجآت ، وبتصوير النفس الإِنسانية فى حال غناها وفى حال فقرها ، فى حال حصولها على النعمة وفى حال ذهاب هذه النعمة من بين يديها .
كما يراها تحكى لنا سوء عاقبة الجاحدين لنعم الله ، إذ أن هذا الجحود يؤدى إلى زوال النعم ، ورحم الله القائل : من لم يشكر النعم فقد تعرض لزوالها ، ومن شكرها فقد قيدها بعقالها .
قال الله تعالى : { كَذَلِكَ الْعَذَابُ } أي : هكذا عذاب من خالف أمر الله ، وبخل بما آتاه الله وأنعم به عليه ، ومنع حق المسكين والفقراء{[29197]} وذوي الحاجات ، وبدل نعمة الله كفرا { وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } أي : هذه عقوبة الدنيا كما سمعتم ، وعذاب الآخرة أشق . وقد ورد في حديث رواه الحافظ البيهقي من طريق جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، عن أبيه ، عن جده ؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الجداد{[29198]} بالليل ، والحصاد بالليل{[29199]} .
وقوله تعالى : { كذلك العذاب } ابتداء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر قريش ، والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة ، أي ذلك العذاب ، هو العذاب الذي ينزل بقريش بغتة ، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا ، وقال كثير من المفسرين : العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين ، حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود .
رجوع إلى تهديد المشركين المبدوء من قوله : { إنا بلوناهم } [ القلم : 17 ] ، فالكلام فذلكة وخلاصة لما قبله وهو استئناف ابتدائي .
والمشار إليه باسم الإشارة هو ما تضمنته القصة من تلف جنتهم وما أحسوا به عند رؤيتها على تلك الحالة ، وتندمهم وحسرتهم ، أي مثل ذلك المذكور يَكون العذاب في الدنيا ، فقوله : { كذلك } مسند مقدم و { العذاب } مسند إليه ، وتقديم المسند للاهتمام بإحضار صورته في ذهن السامع .
والتعريف في { العذاب } تعريف الجنس وفيه توجيه بالعهد الذهني ، أي عذابكم الموعد مثل عذاب أولئك والمماثلة في إتلاف الأرزاق والإِصابة بقطع الثمرات .
وليس التشبيه في قوله : { كذلك العذاب } مثل التشبيه في قوله : { وكذلك جعلناكم أمة وسطاً } [ البقرة : 143 ] ، ونحوه ما تقدم في سورة البقرة بل ما هنا من قبيل التشبيه المتعارف لوجود ما يصلح لأن يكون مشبهاً به العذابُ وهو كون المشبه به غير المشبه ، ونظيره قوله تعالى : { وكذلك أخْذُ ربّك إذا أخَذَ القرى وهي ظالمة } [ هود : 102 ] بخلاف ما في سورة البقرة فإن المشبه به هو عين المشبه لقصد المبالغة في بلوغ المشبه غاية ما يكون فيه وجه الشبه بحيث إذا أريد تشبيهه لا يلجأ إلاّ إلى تشبيهه بنفسه فيكون كناية عن بلوغه أقصى مراتب وجه الشبه .
والمماثلةُ بين المشبه والمشبه به مماثلة في النوع وإلاّ فإن ما تُوعدوا به من القحط أشد مما أصاب أصحاب الجنة وأطولُ .
وقوله { ولعذاب الآخرة أكبر } دال على أن المراد بقوله : { كذلك العذاب } عذاب الدنيا .
وضمير { لو كانوا يعلمون } عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله : { بلوناهم } [ القلم : 17 ] ، وهم المشركون فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا ، ولا يصح عوده إلى { أصحاب الجنة } [ القلم : 17 ] لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
يقول الله تعالى: {كذلك} يعني هكذا {العذاب} هلاك جنتهم {ولعذاب الآخرة أكبر} يعني أعظم مما أصابهم إن لم يتوبوا في الدنيا {لو كانوا يعلمون}...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"كَذلكَ العَذَابُ" يقول جلّ ثناؤه: كفعلنا بجنة أصحاب الجنة، إذ أصبحت كالصريم بالذي أرسلنا عليها من البلاء والاَفة المفسدة، فعلنا بمن خالف أمرنا وكفر برسلنا في عاجل الدنيا.
" وَلَعَذَابُ الآخِرَة أكْبَرُ" يعني عقوبة الآخرة بمن عصى ربه وكفر به، أكبر يوم القيامة من عقوبة الدنيا وعذابها...
" لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ": لو كان هؤلاء المشركون يعلمون أن عقوبة الله لأهل الشرك به أكبر من عقوبته لهم في الدنيا، لارتدعوا وتابوا وأنابوا، ولكنهم بذلك جهال لا يعلمون...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كذلك العذاب} كأنه يخاطب أهل مكة أن: كذلك العذاب في الدنيا، في أن يأخذ أهله من كانوا أو كما أخذ أصحاب الجنة عند الأمن إذ كان عندهم أنهم يقدرون على صرم تلك الثمار، ولا يفوتهم.
{ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} ففي هذا إيجاب العذاب على من لم يعلم بالعذاب، ولم يؤمن به، لأنهم لم يؤمنوا بعذاب الآخرة، ولا علموا به. ثم أوجب لهم العذاب، وإن لم يعلموا، ولم يعذروا بالجهل لأنهم قد وقفوا على السبب الذي لو تفكروا لعلموا بالعذاب ولأيقنوا به. وفي هذا حجة أن لا عذر لمن تخلف عن التوحيد والإيمان بالله تعالى، وإن جهل إلا أن يكون جهله جهل خلقة لأن الذي أفضى به إلى الجهل هو التقصير في الطلب، وإلا لو لم يقصر في الطلب لوجد من يدله على معرفة الصانع ووحدانية الرب تعالى...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{كذلك العذاب} ابتداء مخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم في أمر قريش، والإشارة بذلك إلى العذاب الذي نزل بالجنة، أي ذلك العذاب، هو العذاب الذي ينزل بقريش بغتة، ثم عذاب الآخرة بعد ذلك أشد عليهم من عذاب الدنيا.
وقال كثير من المفسرين: العذاب النازل بقريش المماثل لأمر الجنة هو الجدب الذي أصابهم سبع سنين، حتى رأوا الدخان وأكلوا الجلود.
واعلم أن المقصود من ذكر هذه القصة أمران:
(أحدهما) أنه تعالى قال: {أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين} والمعنى: لأجل أن أعطاه المال والبنين كفر بالله كلا: بل الله تعالى إنما أعطاه ذلك للابتلاء، فإذا صرفه إلى الكفر دمر الله عليه بدليل أن أصحاب الجنة لما أتوا بهذا القدر اليسير من المعصية دمر الله على جنتهم فكيف يكون الحال في حق من عاند الرسول وأصر على الكفر والمعصية.
(والثاني) أن أصحاب الجنة خرجوا لينتفعوا بالجنة ويمنعوا الفقراء عنها، فقلب الله عليهم القضية، فكذا أهل مكة لما خرجوا إلى بدر حلفوا على أن يقتلوا محمدا وأصحابه، وإذا رجعوا إلى مكة طافوا بالكعبة وشربوا الخمور، فأخلف الله ظنهم فقتلوا وأسروا كأهل هذه الجنة.
ثم إنه لما خوف الكفار بعذاب الدنيا قال: {ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون} وهو ظاهر لا حاجة به إلى التفسير...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وقبل أن يسدل السياق الستار على المشهد الأخير نسمع التعقيب: (كذلك العذاب. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون).. وكذلك الابتلاء بالنعمة. فليعلم المشركون أهل مكة. (إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة) ولينظروا ماذا وراء الابتلاء.. ثم ليحذروا ما هو أكبر من ابتلاء الدنيا وعذاب الدنيا: (ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون)!...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
رجوع إلى تهديد المشركين المبدوء من قوله: {إنا بلوناهم}.
والمشار إليه باسم الإشارة هو ما تضمنته القصة من تلف جنتهم وما أحسوا به عند رؤيتها على تلك الحالة، وتندمهم وحسرتهم، أي مثل ذلك المذكور يَكون العذاب في الدنيا...
أي عذابكم الموعد مثل عذاب أولئك والمماثلة في إتلاف الأرزاق والإِصابة بقطع الثمرات.
وقوله {ولعذاب الآخرة أكبر} دال على أن المراد بقوله: {كذلك العذاب} عذاب الدنيا. وضمير {لو كانوا يعلمون} عائد إلى ما عاد إليه ضمير الغائب في قوله: {بلوناهم} وهم المشركون، فإنهم كانوا ينكرون عذاب الآخرة فهددوا بعذاب الدنيا، ولا يصح عوده إلى {أصحاب الجنة} لأنهم كانوا مؤمنين بعذاب الآخرة وشدته.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَلَعَذَابُ الآخرةِ أَكْبَرُ} لأنه العذاب الذي لا مجال فيه للخلاص، لأنه لا مجال فيه للتوبة والعودة إلى الله من جديد، كما هو الحال في عذاب الآخرة، {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} ما يجب أن يفكروا فيه، لينتهوا إلى النتيجة المثلى، في حياتهم في الدنيا والآخرة...