معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

قوله تعالى : { يا مريم اقنتي لربك } . قالت لها الملائكة شفاها ، أي أطيعي ربك ، وقال مجاهد : أطيلي القيام في الصلاة لربك ، والقنوت : الطاعة ، وقيل : القنوت طول القيام . قال الأوزاعي : لما قالت لها الملائكة ذلك قامت في الصلاة حتى ورمت قدماها وسالت دماً وقيحاً .

قوله تعالى : { واسجدي واركعي } . قيل إنما قدم السجود على الركوع لأنه كان كذلك في شريعتهم ، وقيل بل كان الركوع قبل السجود في الشرائع كلها ، وليس الواو للترتيب بل للجمع ، يجوز أن يقول الرجل رأيت زيداً وعمراً ، وإن كان قد رأى عمراً قبل زيد .

قوله تعالى : { مع الراكعين } . ولم يقل مع الراكعات ليكون أعم وأشمل فإنه يدخل فيه الرجال والنساء وقيل معناه : مع المصلين في الجماعة .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

ثم حكى القرآن أن الملائكة أمرت مريم بأن تكثر من عبادة الله - تعالى - ومن المداومة على طاعته شكراً له فقال - تعالى - :

{ يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } .

القنوت لزوم الطاعة والاستمرار عليها ، مع استشعار الخشوع والخضوع لله رب العالمين .

أى : قالت الملائكة أيضاً لمريم : يا مريم أخلصى لله وحده وداومى عليها ، وأكثرى من السجود لله ومن الركوع مع الراكعين ، فإن ملازمة الطاعات والصلوات من شأنها أن تحفظ النعم وأن تزيد الإنسان قربا وحبا من خالقه - عز وجل - .

فالآية الكريمة دعوة قوية من الله - تعالى - لمريم ولعباده جميعا بالمحافظة على العبادات ولا سيما الصلاة في جماعة .

قال صاحب الكشاف : أمرت بالصلاة بذكر القنوت والسجود لكونهما من هيئة الصلاة وأركانها ثم قيل لها { واركعي مَعَ الراكعين } بمعنى ولتكن صلاتك مع المصلين أى في الجماعة ، أو انظمى نفسك في جملة المصلين وكونى معهم في عدادهم ولا تكونى في عداد غيرهم .

فأنت ترى فى هاتين الآيتين أسمى ألوان المدح والتكريم والتهذيب لمريم البتول ، فلقد أخبر - سبحانه - باصطفائها صغيرة وكبيرة ، وبطهرها من كل سوء ، والإشارة إلى الطهر هنا إشارة ذات مغزى ، وذلك لما لابس مولد عيسى - عليه السلام - من خوارق ، هذه الخوارق جعلت اليهود يفترون الكذب على مريم ، ويتهمونها زورا وبهتانا بما هى بريئة منه ، ثم بعد ذلك يأمرها - سبحانه - بمداومة الطاعة والعبادة والخضوع لله رب العالمين .

وبذلك يتبين لكل ذى عقل سليم أن الإسلام الذى جاء به محمد صلى الله عليه وسلم هو الدين الحق ، لأنه قد قال القول الحق في شأن مريم وابنها عيسى - عليه السلام - أما أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقد اختلفوا في شأنهما اختلافا عظيما أدى بهم إلى الضلال والخسران .

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

33

( يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين ) . .

طاعة وعبادة ، وخشوع وركوع ، وحياة موصولة بالله تمهيدا للأمر العظيم الخطير . .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

ثم أخبر تعالى عن الملائكة : أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع والخضوع والسجود والركوع والدؤوب في العمل لها ، لما يريد الله

[ تعالى ]{[5016]} بها من الأمر الذي قدره وقضاه ، مما فيه محنة لها ورفعة في الدارين ، بما أظهر الله تعالى فيها من قدرته العظيمة ، حيث خلق منها ولدًا من غير أب ، فقال تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع{[5017]} كما قال تعالى : { بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ }{[5018]} [ البقرة : 116 ] .

وقد قال ابن أبي حاتم : حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، أخبرنا ابن وهب ، أخبرني عَمْرو بن الحارث : أن دَرَّاجا أبا السمح حدثه عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كُلُّ حَرْفٍ فِي الْقُرآنِ يُذْكَرُ فِيهِ القُنُوتُ فَهُوَ الطَّاعَةُ " . ورواه ابن جرير من حديث{[5019]} ابن لهيعة ، عن دَرّاج ، به ، وفيه نكارة{[5020]}

وقال مجاهد : كانت مريم ، عليها السلام ، تقوم حتى تتورم كعباها ، والقنوت هو : طول الركوع{[5021]} في الصلاة ، يعني امتثالا لقوله تعالى : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ } بل قال الحسن : يعني اعبدي لربك { وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } أي : كوني منهم .

وقال الأوزاعي : ركدت في محرابها راكعة وساجدة وقائمة ، حتى نزل الماء الأصفر في قدميها ، رضي الله عنها .

وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمتها من طريق محمد بن يونس الكُدَيمي - وفيه مقال - : حدثنا علي بن بحر بن بَرّي ، حدثنا الوليد بن مسلم ، عن الأوزاعي ، عن يحيى بن أبي كثير في قوله : { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي } قال : سَجَدت حتى نزل الماء الأصفر في عينيها{[5022]} {[5023]} .

وذكر ابن أبي الدنيا : حدثنا الحسن بن عبد العزيز ، حدثنا ضَمْرة ، عن ابن شَوْذَب قال : كانت مريم ، عليها السلام ، تغتسل في كل ليلة .


[5016]:زيادة من و.
[5017]:في جـ، أ: "الخشوع".
[5018]:في أ، و: (وَلِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتون)[الروم: 26].
[5019]:في جـ، أ، و: "طريق".
[5020]:تفسير ابن أبي حاتم (2/261) وتفسير الطبري (6/403) ورواه أحمد في مسنده (3/75) قال الهيثمي في المجمع (6/320): "في إسناده ابن لهيعة وهو ضعيف" وفيه أيضا دراج قال أحمد: "أحاديثه مناكير" وضعفه النسائي وأبو حاتم وقال أبو داود: "أحاديثه مستقيمة إلا ما كان عن أبي الهيثم عن أبي سعيد".
[5021]:في أ: "الذكر".
[5022]:في ر: "عينها".
[5023]:تاريخ دمشق لابن عساكر (ص 369) تراجم النساء ط. المجمع العلمي بدمشق، ومختصر تاريخ دمشق لابن منظور (26/78).
 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

{ يا مريم اقنتي لربك واسجدي واركعي مع الراكعين } أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر أركانها مبالغة في المحافظة عليها ، وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو للتنبيه على أن الواو لا توجب الترتيب ، أو ليقترن اركعي بالراكعين للإيذان بأن من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلين . وقيل المراد بالقنوت إدامة الطاعة كقوله تعالى : { أمن هو قانت آناء الليل ساجدا وقائما } وبالسجود الصلاة كقوله تعالى : { وأدبار السجود } وبالركوع الخشوع والإخبات .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

و{ اقنتي } معناه اعبدي وأطيعي ، قاله قتادة والحسن ، وروى أبو سعيد الخدري ، عن النبي عليه السلام قال :< كل قنوت في القرآن فهو بمعنى طاعة الله{[3167]}> ويحتمل أن يكون معناه ، أطيلي القيام في الصلاة ، وهذا هو قول الجمهور ، وهو المناسب في المعنى لقوله : { واسجدي واركعي } وبه قال مجاهد ، وابن جريج ، والربيع وروى مجاهد أنها لما خوطبت بهذا ، قامت حتى ورمت قدماها{[3168]} ، وروى الأوزاعي ، أنها قامت حتى سال الدم والقيح من قدميها ، وروي أن الطير كانت تنزل على رأسها ، تظنها جماداً لسكونها في طول قيامها ، وقال سعيد بن جبير ، { اقنتي لربك } ، معناه أخلصي لربك ، واختلف المتأولون ، لم قدم السجود على الركوع ؟ فقال قوم : كان ذلك في شرع زكرياء وغيره منهم وقال قوم : الواو لا تعطي رتبة ، وإنما المعنى ، افعلي هذا وهذا ، وقد علم تقديم الركوع ، وهذه الآية أكثر إشكالاً من قولنا ، قام زيد وعمرو ، لأن قيام زيد وعمرو ليس له رتبة معلومة ، وهذه الآية قد علم أن السجود بعد الركوع ، فكيف جاءت الواو بعكس ذلك{[3169]} ، فالقول عندي في ذلك ، أن مريم أمرت بفصلين ومعلمين من معالم الصلاة ، وهما طول القيام والسجود ، وخصا بالذكر لشرفهما في أركان الصلاة ، وإذا العبد يقرب في وقت سجوده من الله تعالى : وهذان يختصان بصلاتها مفردة ، وإلا فيمن يصلي وراء إمام ، فليس يقال له أطل قيامك ، ثم أمرت -بعد - بالصلاة في الجماعة ، فقيل لها ، { واركعي مع الراكعين } وقصد هنا معلم من معالم الصلاة ، لئلا يتكرر لفظ ، ولم يرد بالآية السجود والركوع ، الذي هو منتظم في ركعة واحدة والله أعلم .


[3167]:- أخرجه الإمام أحمد، وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان، وابن أبي حاتم، وابن جرير عن أبي سعيد الخدري بلفظ: (كل حرف من القرآن يذكر فيه القنوت فهو الطاعة). "الجامع الصغير" 2/235. وابن كثير.
[3168]:- أخرجه ابن جرير في تفسيره. 3/265.
[3169]:- ذكر أبو حيان هذا الكلام عن ابن عطية، ثم قال: "وهذا كلام من لم يمعن النظر في كتاب سيبويه، فإن سيبويه ذكر أن الواو يكون معها في العطف المعية، وتقديم السابق وتقديم اللاحق يحتمل ذلك احتمالات سواء فلا يترجح أحد الاحتمالات على الآخر، ولا التفات لقول بعض المتأخرين في ترجيح المعية على تقديم السابق" البحر المحيط 2/457.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{يَٰمَرۡيَمُ ٱقۡنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسۡجُدِي وَٱرۡكَعِي مَعَ ٱلرَّـٰكِعِينَ} (43)

إعادةُ النداء في قول الملائكة : { يا مريم اقنتي } لقصد الإعجاب بحالها ، لأنّ النداء الأول كفى في تحصيل المقصود من إقبالها لسماع كلام الملائكة ، فكان النداء الثاني مستعملاً في مجرّد التنبيه الذي ينتقل منه إلى لازمِه وهو التنويه بهذه الحالة والإعجاب بها ، ونظيره قول امرىء القيس :

تقول وقد مال الغَبيط بنا معَا *** عقرتَ بعيري يا امرأ القيس فانْزِل

( فهو مستعمل في التنبيه المنتقل منه إلى التوبيخ ) .

والقنوت ملازمة العبادة ، وتقدم عند قوله تعالى : { وقوموا للَّه قانتين } في سورة [ البقرة : 238 ] .

وقدم السجود ، لأنّه أدخل في الشكر والمقَام هنا مقام شكر .

وقوله : { مع الراكعين } إذن لها بالصلاة مع الجماعة ، وهذه خصوصية لها من بين نساء إسرائيل إظهاراً لمعنى ارتفاعها عن بقية النساء ، ولذلك جيء في الراكعين بعلامة جمع التذكير .

وهذا الخطاب مقدمة للخطاب الذي بعده وهو { يا مريم إن الله يبشرك بكلمة منه } [ آل عمران : 45 ] لقصد تأنيسها بالخبر الموالي لأنه لما كان حاصله يَجلب لها حَزناً وسوء قالة بين الناس ، مهّد له بما يجلب إليها مَسرّة ، ويوقنها بأنّها بمحل عناية الله ، فلا جرم أن تعلم بأنّ الله جاعل لها مخرجاً وأنّه لا يخزيها .

وقوله : { وما كنت لديهم } إيماء إلى خلوّ كتبهم عن بعض ذلك ، وإلاّ لقال : وما كنت تتلو كُتبهم مثل : « وما كنت تتلو من قبله من كتاب » أي إنّك تخبرهم عن أحوالهم كأنّك كنت لديهم .