قوله تعالى : { فأنجيناه } ، يعني هوداً عند نزول العذاب .
قوله تعالى : { والذين معه برحمة منا وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا } ، أي : استأصلناهم وأهلكناهم عن آخرهم .
قوله تعالى : { وما كانوا مؤمنين } .
ما ذكره ابن إسحاق وغيره : أنهم كانوا قوما ينزلون اليمن وكانت مساكنهم بالأحقاف ، وهي رمال بين عمان وحضرموت ، وكانوا قد فشوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله عز وجل ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها ، صنم يقال له صدأ ، وصنم يقال له صمود ، وصنم يقال له الهباء ، فبعث الله إليهم هوداً نبياً ، وهو من أوسطهم نسباً ، وأفضلهم حسباً ، فأمرهم أن يوحدوا الله ويكفوا عن ظلم الناس ، لم يأمرهم بغير ذلك ، فكذبوه وقالوا : من أشد منا قوة ، وبنوا المصانع ، وبطشوا بطشة الجبارين ، فلما فعلوا ذلك أمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم ذلك . وكان الناس في ذلك الزمان إذا نزل بهم بلاء فطلبوا الفرج كانت طلبتهم إلى الله عز وجل عند بيته الحرام بمكة مسلمهم ومشركهم ، فيجتمع بمكة ناس كثير شتى ، مختلفة أديانهم ، وكلهم معظم لمكة ، وأهل مكة يومئذ العماليق ، سموا عماليق ، لأن أباهم عمليق بن لاوذ ، بن سام بن نوح ، وكان سيد العماليق إذ ذاك بمكة رجل يقال له معاوية بن بكر ، وكانت أم معاوية كلهدة بنت الخيبري رجل من عاد ، فلما قحط المطر عن عاد وجهدوا قالوا : جهزوا وفداً منكم إلى مكة فليستسقوا لكم ، فبعثوا ، قيل ابن عنز ، ونعيم بن هزال ، من هزيل ، وعقيل بن صندين بن عاد الأكبر ، ومرثد بن سعد بن عفير وكان مسلماً يكتم إسلامه ، وجلهمة بن الخيبري خال معاوية بن بكر ، ثم بعثوا لقمان بن عاد الأصغر ، بن صندين بن عاد الأكبر ، فانطلق كل رجل من هؤلاء ومعه رهط من قومه حتى بلغ عدد وفدهم سبعين رجلاً . فلما قدموا مكة نزلوا على معاوية بن بكر وهو بظاهر مكة خارجاً من الحرم ، فأنزلهم وأكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فأقاموا عنده شهراً يشربون الخمر ، وتغنيهم الجرادتان ، وهما قينتان لمعاوية بن بكر ، وكان مسيرهم شهراً ومقامهم شهرا ، فلما رأى معاوية بن بكر طول مقامهم وقد بعثهم قومهم يتغوثون بهم من البلاء الذي أصابهم شق ذلك عليه ، وقال : هلك أخوالي وأصهاري ، وهؤلاء مقيمون عندي وهم ضيفي ، والله ما أدري كيف أصنع بهم ، أستحي أن آمرهم بالخروج إلى ما بعثوا إليه ، فيظنون أنه ضيق مني بمقامهم عندي ، وقد هلك من وراءهم من قومهم جهدا وعطشا ، فشكا ذلك من أمرهم إلى قينتيه الجرادتين ، فقالتا : قل شعراً نغنيهم به ، لا يدرون من قاله ، لعل ذلك أن يحركهم ، فقال معاوية بن بكر :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يسقينا غماما
فيسقى أرض عاد إن عاداً *** قد أمسوا لا ييينون الكلاما
من العطش الشديد فليس نرجو *** به الشيخ الكبير ولا الغلاما
وقد كانت نساؤهم بخير *** فقد أمسيت نساؤهم أيامى
وإن الوحش تأتيهم جهاراً *** فلا تخشى لعادي سهاما
وأنتم هاهنا فيما اشتهيتم *** نهاركمو وليلكمو تماما
فقبح وفدكم من وفد قوم *** ولا لقوا التحية والسلاما
فلما غنتهم الجرادتان هذا قال بعضهم لبعض : يا قوم إنما بعثكم قومكم يتغوثون بكم من البلاء الذي نزل بهم ، وقد أبطأتم عليهم ، فادخلوا هذا الحرم فاستسقوا لقومكم ، فقال مرثد بن سعد بن عفير ، وكان آمن بهود سراً : إنكم والله لا تسقون بدعائكم ، ولكن إن أطعتم نبيكم ، وأنبتم إلى ربكم سقيتم ، فأظهر إسلامه عند ذلك وقال شعرا : عصت عاد رسولهم فأمسوا *** عطاشاً ما تبلهم السماء
لهم صنم يقال له صمود *** يقابله صداء والهباء
فبصرنا الرسول سبيل رشد *** فأبصرنا الهدى وجلا العماء
وإن إله هود هو إلهي *** على الله التوكل والرجاء
فقالوا لمعاوية بن بكر : احبس عنا مرثد بن سعد فلا يقدمن معنا مكة ، فإنه قد اتبع دين هود ، وترك ديننا ، ثم خرجوا إلى مكة يستسقون لعاد ، فلما ولوا إلى مكة خرج مرثد بن سعد من منزل معوية حتى أدركهم قبل أن يدعوا الله بشيء مما خرجوا له ، فلما انتهى إليهم قام يدعوا الله ، وبها وفد عاد يدعون ، فقال : اللهم أعطني سؤلي وحدي ، ولا تدخلني في شئ مما يدعوك به وفد عاد ، قال : قيل بن عنز رأس وفد عاد ، فقال وفد عاد : اللهم أعط قيلاً ما سألك ، واجعل سؤلنا مع سؤله ، وكان قد تخلف عن وفد عاد حين دعوا لقمان بن عاد ، وكان سيد عاد ، حتى إذا فرغوا من دعوتهم فقال : اللهم إني جئتك وحدي في حاجتي فأعطني سؤلي ، وسأل الله طول العمر ، فعمر عمر سبعة أنسر ، وقال : قيل ابن عنز حين دعا : يا إلهنا إن كان هود صادقاً فاسقنا فإنا قد هلكنا ، فأنشأ الله سحائب ثلاثاً ، بيضاء ، وحمراء ، وسوداء ، ثم ناداه مناد من السحاب يا قيل ، اختر لنفسك وقومك من السحائب ما شئت ، فقال قيل : اخترت السحابة السوداء فإنها أكثر السحاب ماءً ، فناداه مناد : اخترت رماداً رمدداً لا يبقي من آل عاد أحداً ، وساق الله سبحانه وتعالى السحابة السوداء التي اختارها قيل بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى خرجت عليهم من واد لهم يقال له المغيث ، فلما رأوها استبشروا وقالوا : هذا عارض ممطرنا ، يقول الله تعالى : { بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها } [ الأحقاف : 24-25 ] أي : كل شيء مرت به ، وكان أول من أبصر ما فيها ، وعرف أنها ريح مهلكة امرأة من عاد ، يقال لها مهدد ، فلما تبينت ما فيها صاحت ثم صعقت ، فما أفاقت قالوا لها : ماذا رأيت ؟ قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النار أمامها رجال يقودونها ، فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوماً ، فلم تدع من عاد أحداً إلا هلك ، واعتزل هود ومن معه من المؤمنين في حظيرة ما يصيبه ومن معه من الريح إلا ما تلين عليه الجلود ، وتلذ الأنفس ، وإنها لتمر من عاد بالظعن فتحملهم بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة ، وخرج وفد عاد من مكة حتى مروا بمعاوية بن بكر فنزلوا عليه ، فبينما هم عنده إذا أقبل رجل على ناقة ، في ليلة مقمرة مساء ثالثة من مصاب عاد ، فأخبرهم الخبر ، فقالوا له : فأين فارقت هوداً وأصحابه ؟ فقال : فارقتهم بساحل البحر ، فكأنهم شكوا فيما حدثهم به ، فقالت هزيلة بنت بكر : صدق ورب مكة . وذكروا أن مرثد بن سعد ولقمان بن عاد ، وقيل بن عنز ، حين دعوا بمكة ، قيل لهم : قد أعطيتكم مناكم فاختاروا لأنفسكم ، إلا أنه لا سبيل إلى الخلود ، ولابد من الموت ، فقال مرثد : اللهم أعطني صدقاً وبراً ، فأعطي ذلك ، وقل لقمان : أعطني يا رب عمراً ، فقيل له : اختر ، فاختار عمر سبعة أنسر ، فكان يأخذ الفرخ حين يخرج من بيضته ، فيأخذ الذكر منها لقوته ، حتى إذا مات أخذ غيره ، فلم يزل يفعل ذلك حتى أتى على السابع ، وكان كل نسر يعيش ثمانين سنة ، وكان آخرها لبدا ، فلما مات لبد مات لقمان معه . وأما قيل فإنه قال : أختار أن يصيبني ما أصاب قومي ، فقيل له : إنه الهلاك ، فقال : لا أبالي ، لا حاجة لي في البقاء بعدهم ، فأصابه الذي أصاب عاداً من العذاب فهلك . قال السدي : بعث الله على عاد الريح العقيم فلما دنت منهم نظروا إلى الإبل والرجال ، تطير بهم الريح بين السماء والأرض ، فلما رأوها تبادروا البيوت فدخلوها ، وأغلقوا أبوابهم ، فجاءت الريح فقلعت أبوابهم فدخلت عليهم فأهلكتهم فيها ، ثم أخرجتهم من البيوت ، فلما أهلكهم الله أرسل عليهم طيراً سوداء فنقلتهم إلى البحر فألقتهم فيه . وروي أن الله عز وجل أمر الريح فأهالت عليهم الرمال ، فكانوا تحت الرمل سبع ليال وثمانية أيام ، لهم أنين تحت الرمل ، ثم أمر الريح فكشف عنهم الرمال فاحتملتهم ، فرمت بهم في البحر ، ولم تخرج ريح قط إلا بمكيال إلا يومئذ ، فإنها عتت على الخزنة فغلبتهم ، فلم يعلموا كم كان مكيالها ، وفي الحديث : ( أنها خرجت على قدر خرق الخاتم ) ، وروي عن علي رضي الله عنه : أن قبر هود عليه السلام بحضرموت في كثيب أحمر . وقال عبد الرحمن بن سابط : بين الركن والمقام وزمزم قبر تسعة وتسعين نبياً ، وإن قبر هود ، وشعيب وصالح ، وإسماعيل عليهم السلام في تلك البقعة . ويروى أن النبي من الأنبياء إذا هلك قومه جاء هو والصالحون معه إلى مكة يعبدون الله فيها حتى يموتوا .
ولم يطل انتظار هود عليهم ، فقد حل بهم العقاب الذي توعدهم به سريعا ولذا قال - تعالى - : { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا } الفاء فصيحة . أى : فوقع ما وقع فأنجينا هودا والذين اتبعوه في عقيدته برحمة عظيمة منا لا يقدر عليها غيرنا .
{ وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أى : استأصلناهم عن آخرهم بالريح العقيم التي { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } فقطع الدابر كناية عن الاستئصال والاهلاك للجميع يقال قطع الله دابره أى : أذهب أصله .
وقوله : { وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } مع إثبات التكذيب بآيات الله ؟ قلت : هو تعريض بمن آمن منهم - كمرثد بن سعد - ومن نجا مع هود - عليه السلام - كأنه قال : وقطعنا دابر الذين كذبوا منهم ، ولم يكونوا مثل من آمن منهم ليؤذن أن الهلاك للمكذبين ونجى الله المؤمنين " .
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين ، وتحقق النذير في قوم هود كما تحقق قبل ذلك في قوم نوح .
( فأنجيناه والذين معه برحمة منا ، وقطعنا دابر الذين كذبوا بآياتنا ، وما كانوا مؤمنين )
فهو المحق الكامل الذي لا يتخلف منه أحد . وهو ما عبر عنه بقطع الدابر . والدابر هو آخر واحد في الركب يتبع أدبار القوم !
وهكذا طويت صفحة أخرى من صحائف المكذبين . وتحقق النذير مرة أخرى بعد إذ لم ينفع التذكير . . ولا يفصل السياق هنا ما يفصله من أمر هذا الهلاك في السور الأخرى . فنقف نحن في ظلال النص الذي يهدف إلى الإستعراض السريع ؛ ولا نخوض في تفصيل له مواضعه في النصوص .
وهذا تهديد ووعيد من الرسول لقومه ؛ ولهذا عقب بقوله : { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ }
وقد ذكر الله ، سبحانه ، صفة إهلاكهم في أماكن أخر من القرآن ، بأنه أرسل عليهم الريح العقيم ، ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ، كما قال في الآية الأخرى : { وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ } [ الحاقة : 6 - 8 ] لما تمردوا وعتوا أهلكهم الله بريح عاتية ، فكانت تحمل الرجل منهم فترفعه في الهواء ثم تنكسه على أمّ رأسه فتثلغُ رأسه حتى تُبينه من بين جثته ؛ ولهذا قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ }
وقال محمد بن إسحاق : كانوا يسكنون باليمن من{[11875]} عمان وحضرموت ، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض وقهروا أهلها ، بفضل قوتهم التي آتاهم الله ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله ، فبعث الله إليهم هودًا ، عليه السلام ، وهو من أوسطهم نسبا ، وأفضلهم موضعًا ، فأمرهم أن يوحدوا الله ولا يجعلوا معه إلها غيره ، وأن يكفوا عن ظلم الناس ، فأبوا عليه وكذبوه ، وقالوا : من أشد منا قوة ؟ واتبعه منهم ناس ، وهم يسير مكتتمون بإيمانهم ، فلما عتت عاد على الله وكذبوا نبيه ، وأكثروا في الأرض الفساد وتجبروا ، وبنوا بكل ريع آية عبثا بغير نفع ، كلمهم هود فقال : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } [ الشعراء : 128 - 131 ]{ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ . إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ } أي : بجنون { قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [ هود : 53 - 56 ]
قال محمد بن إسحاق : فلما أبوا إلا الكفر به ، أمسك الله عنهم القطر{[11876]} ثلاث سنين ، فيما يزعمون ، حتى جهدهم ذلك ، قال : وكان الناس إذا جهدهم أمر في ذلك الزمان ، فطلبوا من الله الفرج فيه ، إنما يطلبونه بحُرْمة ومكان بيته ، وكان معروفا عند المِلَل{[11877]} وبه العماليق مقيمون ، وهم من سلالة عمليق بن لاوَذَ بن سام بن نوح ، وكان سيدهم إذ ذاك رجلا يقال له : " معاوية بن بكر " ، وكانت له أم{[11878]} من قوم عاد ، واسمها كلهدة{[11879]} ابنة الخيبري ، قال : فبعثت عاد وفدًا قريبا من سبعين رجلا إلى الحرم ، ليستسقوا لهم عند الحرم ، فمروا بمعاوية بن بكر بظاهر مكة فنزلوا عليه ، فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان - قينتان لمعاوية - وكانوا قد وصلوا إليه في شهر ، فلما طال مقامهم عنده وأخذته شفقة على قومه ، واستحيا منهم أن يأمرهم بالانصراف ، عمل شعرا يعرض لهم بالانصراف ، وأمر القينتين أن تغنياهم به ، فقال :
ألا يا قيل ويحك قُْم فَهَيْنم *** لعلّ الله يُصْبحُنَا غَمَاما
فَيَسْقي أرضَ عادٍ إنّ عادًا *** قَد امْسَوا لا يُبِينُونَ الكَلاما
من العطش الشديد فليس نَرجُو *** به الشيخَ الكبيرَ ولا الغُلاما
وَقَْد كانَت نساؤهُم بخير *** فقد أمست{[11880]} نِسَاؤهم عَيَامى
وإنّ الوحشَ تأتيهمْ جِهارا *** ولا تَخْشَى لعاديَ سِهَاما
وأنتم هاهُنَا فيما اشتَهَيْتُمْ *** نهارَكُمُ وَلَيْلَكُمُ التماما
فقُبّحَ وَفُْدكم من وَفْدِ قَوْمٍ *** ولا لُقُّوا التحيَّةَ والسَّلاما
قال : فعند ذلك تنبه القوم لما جاءوا له ، فنهضوا إلى الحرم ، ودعوا لقومهم فدعا داعيهم ، وهو : " قيل بن عنز " فأنشأ الله سحابات ثلاثا : بيضاء ، وسوداء ، وحمراء ، ثم ناداه مناد من السماء : " اختر لنفسك - أو : - لقومك من هذا السحاب " ، فقال : " اخترت هذه السحابة السوداء ، فإنها أكثر السحاب ماء " فناداه مناد : اخترت رَمادا رِمْدَدًا ، لا تبقي من عاد أحدا ، لا والدًا تترك ولا ولدا ، إلا جعلته هَمدا ، إلا بني اللّوذيّة المهندًا{[11881]} قال : وبنو اللوذية : بطن من عاد مقيمون{[11882]} بمكة ، فلم يصبهم ما أصاب قومهم - قال : وهم من بقي من أنسالهم{[11883]} وذراريهم{[11884]} عاد الآخرة - قال : وساق الله السحابة السوداء ، فيما يذكرون ، التي اختارها " قيل بن عنز " بما فيها من النقمة إلى عاد ، حتى تخرج عليهم من واد يقال له : " المغيث " ، فلما رأوها استبشروا ، وقالوا : { هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا } يقول : { بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ * تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [ الأحقاف : 24 ، 25 ] أي : تهلك كل شيء مَرّت{[11885]} به ، فكان أول من أبصر ما فيها وعرف أنها ريح ، فيما يذكرون ، امرأة من عاد يقال لها : مَهْدد{[11886]} فلما تبينت ما فيها صاحت ، ثم صُعِقت . فلما أفاقت قالوا : ما رأيت يا مَهْدد{[11887]} ؟ قالت{[11888]} ريحا فيها شُهُب النار ، أمامها رجال يقودونها . فسخرها الله عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، كما قال الله . و " الحسوم " : الدائمة - فلم تدع من عاد أحدًا إلا هلك واعتزل هُود ، عليه السلام ، فيما ذكر لي ، ومن معه من المؤمنين في حظيرة ، ما يصيبه ومن معه إلا ما تلين عليه الجلود ، وتلْتذ الأنفس ، وإنها لتمر على عاد بالطعن ما بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة .
وذكر تمام القصة بطولها ، وهو سياق غريب{[11889]} فيه فوائد كثيرة ، وقد قال الله تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ هود : 58 ]
وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده قريب مما أورده محمد بن إسحاق بن يسار ، رحمه الله .
قال الإمام أحمد : حدثنا زيد بن الحباب ، حدثني أبو المنذر سلام بن سليمان النحوي ، حدثنا عاصم بن أبي النَّجُود ، عن أبي وائل ، عن الحارث البكري قال : خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمررت بالربذة فإذا عجوز من بني تميم منقطع بها ، فقالت لي : يا عبد الله ، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجة ، فهل أنت مبلغي إليه ؟ قال : فحملتها فأتيت المدينة ، فإذا المسجد غاص بأهله ، وإذا راية سوداء تخفق ، وإذا بلال متقلد بسيف{[11890]} بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : ما شأن الناس ؟ فقالوا : يريد أن يبعث عمرو بن العاص وجها . قال : فجلست ، فدخل منزله - أو قال : رحله فاستأذنت عليه ، فأذن لي ، فدخلت فسلمت ، قال : هل بينكم وبين تميم{[11891]} شيء ؟ قلت : نعم ، وكانت لنا الدّبَرة عليهم ، ومررت بعجوز من بني تميم منقطع بها ، فسألتني أن أحملها إليك ، وهاهي بالباب . فأذن لها ، فدخلت ، فقلت : يا رسول الله ، إن رأيت{[11892]} أن تجعل بيننا وبين تميم حاجزًا ، فاجعل الدهناء . فحميت العجوز واستوفزت ، فقالت : يا رسول الله ، فإلى أين يضطر مُضطَرُّك{[11893]} ؟ قال : قلت : إن مثلي مثل ما قال الأول : " معْزَى حَمَلت حتفها " ، حملت هذه ولا أشعر أنها كانت لي خصما ، أعوذ بالله وبرسوله{[11894]} أن أكون كوافد عاد ! قال : هيه ، وما وافد عاد ؟ - وهو أعلم بالحديث منه ، ولكن يستطعمه - قلت : إن عادا قُحطوا فبعثوا وافدًا لهم يقال له : " قيل " ، فمر بمعاوية بن بكر ، فأقام عنده شهرا يسقيه الخمر وتغنيه جاريتان ، يقال لهما : " الجرادتان " ، فلما مضى{[11895]} الشهر خرج إلى جبال مَهْرة ، فقال : اللهم إنك تعلم أني لم أجئ إلى مريض فأداويه ، ولا إلى أسير فأفاديه . اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيه ، فمرت به سحابات سُودُ ، فنودي : منها " اختر " . فأومأ إلى سحابة منها سوداء ، فنودي منها : " خذها رمادا رِمْدِدا ، لا تبقي من عاد أحدا " . قال : فما بلغني أنه بُعث عليهم من الريح إلا قدر{[11896]} ما يجري في خاتمي هذا ، حتى ، هلكوا - قال أبو وائل : وصدق - قال : وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافدًا لهم قالوا : " لا تكن كوافد عاد " .
هكذا رواه الإمام أحمد في المسند ، ورواه الترمذي ، عن عبد بن حميد ، عن زيد بن الحباب ، به{[11897]} نحوه : ورواه النسائي من حديث سلام بن أبي المنذر . عن عاصم - وهو ابن بَهْدَلة - ومن طريقه رواه ابن ماجه أيضا ، عن أبي وائل ، عن الحارث بن حسان البكري ، به . ورواه ابن جرير عن أبي كُرَيْب عن زيد بن حُبَاب ، به . ووقع عنده : " عن الحارث بن يزيد البكري " فذكره ، ورواه أيضا عن أبي كريب ، عن أبي بكر بن عياش ، عن عاصم ، عن الحارث بن يزيد البكري ، فذكره{[11898]} ولم أر في النسخة " أبا وائل " ، والله أعلم .
{ فأنجيناه والذين معه } في الدين . { برحمة منا } عليهم . { وقطعنا دابر الذين كذّبوا بآياتنا } أي استأصلناهم . { وما كانوا مؤمنين } تعريض بمن آمن منهم ، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك هو الإيمان . روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هودا فكذبوه ، وازدادوا عتوا فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم ، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرح ، فجهزوا إليه قيل بن عثر ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم ، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر ، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم و أكرمهم ، وكانوا أخواله وأصهاره ، فلبثوا عنده شهرا يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له ، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين :
ألا يا قيل ويحك قم فهينم *** لعل الله يُسقينا الغماما
فيُسقي أرض عاد أن عادا *** قد امسوا ما يُبينُون الكلاما
حتى غنتا به ، فأزعجهم ذلك فقال مرثد : والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم ، فقالوا لمعاوية : احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فانه قد اتبع دين هود وترك ديننا ، ثم دخلوا مكة فقال قيل : اللهم اسق عادا ما كنت تسقيهم ، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثا بيضاء وحمراء وسوداء ، ثم ناداه مناد من السماء يا قيل : اختر لنفسك ولقومك . فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء ، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا : { هذا عارض ممطرنا } فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه ، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا .
والضمير في قوله «أنجيناه » عائد على «هود » أي أخرجه الله سالماً ناجياً مع من اتبعه من المؤمنين برحمة الله وفضله ، وخرج هود ومن آمن معه حتى نزلوا مكة فأقاموا بها حتى ماتوا { وقطعنا دابر } استعارة تستعمل فيمن يستأصل بالهلاك ، و «الدابر » الذي يدبر القوم ويأتي خلفهم : فإذا انتهى القطع والاستئصال إلى ذلك فلم يبق أحد وقوله { كذبوا بآياتنا } دال على المعجزة وإن لم تتعين لها .
الفاء للتّعقيب : أي فعجّل الله استيصال عاد ونجَّى هوداً والذين معه أي المؤمنين من قومه ، فالمعقّب به هو قطع دابر عاد ، وكان مقتضى الظّاهر أن يكون النّظم هكذا : فقطعْنا دابر الذين كذّبوا إلخ ونجينا هوداً إلخ ، ولكن جرى النّظم على خلاف مقتضى الظّاهر للاهتمام بتعجيل الإخبار بنجاة هود ومن آمَن معه ، على نحو ما قرّرتُه في قوله تعالى : { فكذّبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح المتقدّمة ، وكذلك القول في تعريف الموصوليّة في قوله : { والذين معه } . والّذين معه هم من آمن به من قومه ، فالمعيّة هي المصاحبة في الدّين ، وهي معيّة مجازيّة ، قيل إنّ الله تعالى أمر هوداً ومن معه بالهجرة إلى مكّة قبل أن يحلّ العذاب بعادٍ ، وإنّه توفي هنالك ودفن في الحِجْر ولا أحسب هذا ثابتاً لأنّ مكّة إنّما بناها إبراهيم وظاهر القرآن في سورة هود أنّ بين عاد وإبراهيم زمناً طويلاً لأنّه حكى عن شعيب قولَه لقومه : { أنْ يصيبكم مثلُ ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح وما قومُ لوط منكم ببعيد } [ هود : 89 ] فهو ظاهر في أنّ عاداً وثموداً كانوا بعيدين من زمن شعيب وأنّ قوم لوط غير بعيدين ، والبعد مراد به بعد الزّمان ، لأنّ أمكنة الجميع متقاربة ، وكان لوط في زمن إبراهيم فالأولى أن لا نعين كيفية إنجاء هود ومن معه . والأظهر أنّها بالأمر بالهجرة إلى مكان بعيد عن العذاب ، وروي عن عليّ أنّ قَبْر هود بحضر موت وهذا أقرب .
وقوله : { برحمة منا } الباء فيه للسّببيّة ، وتنكير { رحمة } للتّعظيم ، وكذلك وصفها بأنّها من الله للدّلالة على كمالها ، و ( من ) للابتداء ، ويجوز أن تكون الباءُ للمصاحبة ، أي : فأنجيناه ورحمناه ، فكانت الرّحمَة مصاحبة لهم إذ كانوا بمحلّ اللّطف والرّفق حيثما حَلّوا إلى انقضاء آجالهم ، وموقع ( مِنَّا ) على هذا الوجه موقع رشيق جدّا يؤذن بأن الرّحمة غير منقطعة عنهم كقوله { فإنّك بأعيننا } [ الطور : 48 ] .
وتفسير قوله : { وقطعنا دابر الذين كذبوا } نظير قوله تعالى : { فقُطع دابر القوم الذين ظلموا } في سورة الأنعام ( 45 ) ، وقد أرسل عليهم الرّيح الدّبُور فأفناهم جميعاً ولم يبق منهم أحد . والظّاهر أنّ الذين أنجاهم الله منهم لم يكن لهم نسل . وأمّا الآية فلا تقتضي إلاّ انقراض نسل الذين كذّبوا ونزل بهم العذاب والتّعريف بطريق الموصوليه تقدّم في قوله : { وأغرقنا الذين كذّبوا بآياتنا } [ الأعراف : 64 ] في قصّة نوح آنفاً ، فهو للإيماء إلى وجه بناء الخبر وهو قطع دابرهم .
{ وما كانوا مؤمنين } عطف على { كذّبوا } فهو من الصّلة ، وفائدة عطفه الإشارة إلى أن كلتا الصّلتين موجب لقطع دابرهم : وهما التّكذيب والإشراك ، تعريضاً بمشركي قريش ، ولِموعظتهم ذكرت هذه القصص . وقد كان ما حَلّ بعاد من الاستيصال تطهيراً أوّل لبلاد العرب من الشّرك ، وقطعاً لدابر الضّلال منها في أوّل عصور عمرانها ، أعداداً لما أراد الله تعالى من انبثاق نور الدّعوة المحمّديّة فيها .