ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات ، بآية جامعة لكل معانى القدرة والإِيجاد والهيمنة على هذا الكون فقال : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض } أى من الملائكة والجن والإِنس ، خلقا ، وملكا ، وتصرفا ، كل ذلك له وحده - سبحانه - لا لأحد غيره .
وقوله : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مؤكد لما قبله ومقرر له ، أى : كل الخلائق له لا لغيره طائعون خاضعون ، خاشعون ، طوعا وكرها ، إذ لا يمتنع عليه - سبحانه - شئ يريد فعله بهم ، من حياة أو موت ، ومن صحة أو مرض ، ومن غنى أو فقر .
هذا ، والمتأمل فى هذه الآيات الكريمة ، يرى أكثر من عشرة أدلة ، على وحدانية الله - تعالى - وعلى انفراده بالخلق ، وعلى إمكانية البعث ، ومن هذه الأدلة خلق الإِنسان من تراب ، وصيرورته بعد تقلبه فى أطوار التكوين بشراً سويا ، وإيجاده - سبحانه - للذكور والإِناث ، حتى يبقى النوع الإِنسانى إلى الوقت المقدر فى علمه - تعالى - : وإيجاده للناس على هذه الصورة التى اختلفت معها ألسنتهم وألوانهم ، مع أن أصلهم واحد ، وجعله - على هذه الصورة التى اختلفت معها ألسنتهم وألوانهم ، مع أن أصلهم واحد ، وجعله - تعالى - الليل مناما لراحة الناس ، والنهار معاشا لابتغاء الرزق ، وإنزاله المطر من السماء لإِحياء الأرض بالنبات ، وبقاء السموات والأرض على هذه الصورة العجيبة بأمره وتدبيره . . . إلى غير من الأدلة المبثوثة فى الأنفس والآفاق .
ثم يأتي الإيقاع الأخير ختاما لهذا التقرير ؛ فإذا كل من في السماوت والأرض من خلائق قانتون لله طائعون .
( وله من في السماوات والأرض كل له قانتون ) . .
ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين . ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد . فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا عصاة كافرين . إنما تعصى عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة ، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ كُلّ لّهُ قَانِتُونَ * وَهُوَ الّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الأعْلَىَ فِي السّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } .
يقول تعالى ذكره : ولله من في السموات والأرض من ملك وجنّ وإنس عبيد وملك كُلّ لَهُ قانِتُونَ يقول : كلّ له مطيعون ، فيقول قائل : وكيف قيل كُلّ لَهُ قانِتُونَ وقد علم أن أكثر الإنس والجنّ له عاصون ؟ فنقول : اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فنذكر اختلافهم ، ثم نبين الصواب عندنا في ذلك من القول ، فقال بعضهم : ذلك كلام مخرجه مخرج العموم ، والمراد به الخصوص ، ومعناه : كلّ له قانتون في الحياة والبقاء والموت ، والفناء والبعث والنشور ، لا يمتنع عليه شيء من ذلك ، وإن عصاه بعضهم من غير ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله وَمِنْ آياتِهِ أنْ تَقُومَ السّماءُ والأرْضُ بأمْرِهِ . . . إلى كُلّ لَهُ قانِتُونَ يقول : مطيعون ، يعني الحياة والنشور والموت ، وهم عاصون له فيما سوى ذلك من العبادة .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : كلّ له قانتون بإقرارهم بأنه ربهم وخالقهم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة كُلّ لَهُ قانِتُونَ : أي مطيع مقرّ بأن الله ربه وخالقه .
وقال آخرون : هو على الخصوص ، والمعنى : وله من في السموات والأرض من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : كُلّ لَهُ قانِتُونَ قال : كلّ له مطيعون . المطيع : القانت ، قال : وليس شيء إلاّ وهو مطيع ، إلاّ ابن آدم ، وكان أحقهم أن يكون أطوعهم لله . وفي قوله وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ قال : هذا في الصلاة ، لا تتكلموا في الصلاة كما يتكلم أهل الكتاب في الصلاة ، قال : وأهل الكتاب يمشي بعضهم إلى بعض في الصلاة ، قال : ويتقابلون في الصلاة ، فإذا قيل لهم في ذلك ، قالوا : لكي تذهب الشحناء من قلوبنا تسلم قلوب بعضنا لبعض ، فقال الله : وقوموا لله قانتين لا تزولوا كم يزولون . قانتين : لا تتكلموا كما يتكلمون . قال : فأما ما سوى هذا كله في القرآن من القنوت فهو الطاعة ، إلاّ هذه الواحدة .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن عباس ، وهو أن كلّ من في السموات والأرض من خلق لله مطيع في تصرّفه فيما أراد تعالى ذكره من حياة وموت ، وما أشبه ذلك ، وإن عصاه فيما يكسبه بقوله ، وفيما له السبيل إلى اختياره وإيثاره على خلافه .
وإنما قلت : ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك ، لأن العصاة من خلقه فيما لهم السبيل إلى اكتسابه كثير عددهم ، وقد أخبر تعالى ذكره عن جميعهم أنهم له قانتون ، فغير جائز أن يخبر عمن هو عاص أنه له قانت فيما هو له عاص . وإذا كان ذلك كذلك ، فالذي فيه عاص هو ما وصفت ، والذي هو له قانت ما بينت .
اللام في { له } الأولى لام الملك ، وفي الثانية لام تعدية ل «قنت » إذ «قنت » بمعنى خضع في طاعته وانقياده ، وهذه الآية ظاهر لفظها العموم في الُقَّنت والعموم في كل من يعقل ، وتعميم ذلك في المعنى لا يصح لأنه خبر ، ونحن نجد كثيراً من الجن والإنس لا يقنت في كثير من المعتقد والأعمال ، فلا بد أن عموم ظاهر هذه الآية معناه الخصوص ، واختلف المتألون في هذا الخصوص أي هو ، فقال ابن عباس وقتادة : هو في القنت والطاعة وذلك أن جميع من يعقل هو قانت لله في معظم الأمور من الحياة والموت والرزق والقدرة ونحو ذلك ، وبعضهم يبخل بالعبادة وبالمعتقدات فلا يقنت فيها فكأنه قال كل له قانتون في معظم الأمور وفي غالب الشأن ، وقال ابن زيد ما معناه : إن الخصوص هو في الأعيان المذكورين كأنه قال { وله من في السماوات والأرض } من ملك ومؤمن{[9305]} .
أتبع ذكر إقامة الله تعالى السماوات والأرض بالتذكير بأن كل العقلاء في السماوات والأرض عبيد لله تعالى فيكون من مكملات ما تضمنته جملة { ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } [ الروم : 25 ] فعطفت عليها هذه الجملة زيادة لبيان معنى إقامته السماءَ والأرض .
فاللام في قوله { وله من في السموات والأرض } لام الملك ، واللام في قوله { كل له قانتون } لام التقوية ، أي تقوية تعدية العامل إلى معموله لضعف العامل بكونه فرعاً في العَمل ، وبتأخيره عن معموله . وعليه تكون { مَنْ } صادقة على العقلاء كما هو الغالب في استعمالها . وظاهر معنى القنوت امتثال الأمر ، فيجوز أن يكون المعنى : أنهم منقادون لأمره . وإذ قد كان في العقلاء عصاة كثيرون تعيَّن تأويل القنوت باستعماله في الامتثال لأمر التكوين ، أو في الشهادة لله بالوحدانية بدلالة الحال ، وهذا هو المقصود هنا لأن هذا الكلام أورد بعد ذكر الآيات الستّ إيرادَ الفذلكة بإثبات الوحدانية فلا يحمل قنوتهم على امتثالهم لما يأمرهم الله به من أمر التكليف مباشرة أو بواسطة لأن المخلوقات متفاوتون في الامتثال للتكليف ؛ فالشيطان أمره الله مباشرة بالسجود لآدم فلم يمتثل ، وآدم أمره الله مباشرة أن لا يأكل من الشجرة فأكل منها ؛ إلا أن ذلك قبل ابتداء التكليف .
والمخلوقات السماوية ممتثلون لأمره ساعون في مرضاته قال تعالى { وهم بأمره يعملون } [ الأنبياء : 27 ] . وأما المخلوقات الأرضية العقلاء فهم مخلوقون للطاعة قال تعالى { وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون } [ الذاريات : 56 ] ، فزيغ الزائغين عن طاعة الله تعالى انحراف منهم عن الفطرة التي فطروا عليها ، وهم في انحرافهم متفاوتون ؛ فالضالّون الذين أشركوا بالله فجعلوا له أنداداً ، والعصاة الذين لم يخرجوا عن توحيده ، ولكنهم ربما خالفوا بعض أوامره قليلاً أو كثيراً ، هم في ذلك آخذون بجانب من الإباق متفاوتون فيه . فجملة { وله من في السموات والأرض كل له قانتون } معطوفة على جملة { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره } [ الروم : 25 ] . ويجوز أن تكون جملة { ولَه مَنْ فِي السَّمَاوات والأرض كُل لهُ قانِتُون } تكملة لجملة { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } [ الروم : 25 ] على معنى : وله يومئذ من في السموات والأرض كل له قانتون ، فالقنوت بمعنى الامتثال الواقع في ذلك اليوم وهو امتثال الخضوع لأن امتثال التكليف قد انقضى بانقضاء الدنيا ، أي لا يسعهم إلا الخضوع فيها يأمر الله به من شأنهم { يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون } [ النور : 24 ] ، فتكون الجملة معطوفة على جملة { ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون } [ الروم : 25 ] . والقنوت تقدم في قوله { قانتاً لله حنيفاً } في سورة النحل ( 120 ) .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وله من في السماوات} من الملائكة {و} من في {والأرض} من الإنس والجن، ومن يعبد من دون الله عز وجل، كلهم عبيده وفي ملكه.
{كل له قانتون} يعني كل ما فيهما من الخلق لله قانتون، يعني مقرون بالعبودية له يعلمون أن الله جل جلاله ربهم، وهم خلقهم ولم يكونوا شيئا، ثم يعيدهم، ثم يبعثهم في الآخرة أحياء بعد موتهم كما كانوا...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ولله من في السموات والأرض من ملك وجنّ وإنس عبيد وملك "كُلّ لَهُ قانِتُونَ "يقول: كلّ له مطيعون. فيقول قائل: وكيف قيل "كُلّ لَهُ قانِتُونَ" وقد علم أن أكثر الإنس والجنّ له عاصون؟
فنقول: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فنذكر اختلافهم، ثم نبين الصواب عندنا في ذلك من القول؛ فقال بعضهم: ذلك كلام مخرجه مخرج العموم، والمراد به الخصوص، ومعناه: كلّ له قانتون في الحياة والبقاء والموت، والفناء والبعث والنشور، لا يمتنع عليه شيء من ذلك، وإن عصاه بعضهم من غير ذلك...
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كلّ له قانتون بإقرارهم بأنه ربهم وخالقهم...
وقال آخرون: هو على الخصوص، والمعنى: وله من في السموات والأرض من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم...
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب... هو أن كلّ من في السموات والأرض من خلق لله مطيع في تصرّفه فيما أراد تعالى ذكره من حياة وموت، وما أشبه ذلك، وإن عصاه فيما يكسبه بقوله، وفيما له السبيل إلى اختياره وإيثاره على خلافه.
وإنما قلت: ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن العصاة من خلقه فيما لهم السبيل إلى اكتسابه كثير عددهم، وقد أخبر تعالى ذكره عن جميعهم أنهم له قانتون، فغير جائز أن يخبر عمن هو عاص أنه له قانت فيما هو له عاص. وإذا كان ذلك كذلك، فالذي فيه عاص هو ما وصفت، والذي هو له قانت ما بينت.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {وله من في السماوات والأرض} حرف {من} إنما يتكلم به، ويعبر عمن له الملك والتدبير والتمييز. وحرف: ما عن ملك الأشياء نفسها. فإذا كان من له الملك في الشيء والتدبير والأمر له، فالأملاك أحق أن تكون له. يخبر، والله أعلم، عن غناه وسلطانه وقدرته، أي من له ما ذكر في السماوات والأرض، لا يحتمل أن يمتحنهم، ويأمرهم بأنواع العبادة والطاعة لحاجة نفسه أو مصلحة نفسه؛ إذ هو غني عن ذلك، ولكنه إنما يمتحنهم ويأمرهم بأنواع العبادة وأنواع المحن لمنافع أنفسهم وحاجاتهم ومصالحهم، فإذا كان له ما ذكر من الملك لا يحتمل أن يعجزه شيء أيضا.
{كل له قانتون} قال بعضهم: القنوت: القيام، والقانت: القائم. فإن كان هذا فتأويل {كل له قانتون} أي قائم بتدبيره وأمره في الوجود والعدم والإبداء والإعادة، وفي كل حال؛ إن أوجد وجد، وإن أعدم صار معدوما، وإن أحياه حيي، ونحوه في كل حال يقوم بتدبيره وأمره.
وقال بعضهم: {كل له قانتون} أي مطيعون. فإن كان على هذا فهو على طاعة الخلقة له والشهادة لله بالوحدانية والربوبية والتدبير له والعلم في ذلك لأن الله جعل في خلقه كل أحد وكل شيء وفي صورته ما يشهد له بالوحدانية والربوبية، ويدل على تدبيره وعلمه، فكل له قانت ومطيع بالخلقة والصفة.
وقال بعضهم: {كل له قانتون} أي خاضعون، فهو يرجع إلى حال دون حال، وهو حال الخوف والضرورة؛ يخضع له كل كافر ومشرك في تلك الحال، وهو ما أخبر عنهم من الخضوع له إذا ركبوا الفلك حين قال: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين} [العنكبوت: 65] وقالوا: {لئن أنجانا من هذه لنكونن من الشاكرين} [الأنعام: 63 ويونس: 22] ونحو ذلك من الأحوال التي كانوا يخضعون، ويطيعون.
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
["قانتون"]: أي مطيعون، لا طاعة العبادة ولكن طاعة الإرادة؛ خلقهم على ما أراد، فكانوا على ما أراد، لا يقدر أحد أن يتغير عما خلق عليه...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{قانتون} [أي] منقادون لوجود أفعاله فيهم لا يمتنعون عليه...
لما ذكر الآيات وكان مدلولها القدرة على الحشر التي هي الأصل الآخر، والوحدانية التي هي الأصل الأول، أشار إليها بقوله: {وله من في السماوات والأرض} يعني لا شريك له أصلا لأن كل من في السماوات وكل من في الأرض، ونفس السماوات والأرض له وملكه، فكل له منقادون قانتون، والشريك يكون منازعا مماثلا، فلا شريك له أصلا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر تصرفه في الظرف وبعض المظروف من الإنس والجن، ذكر قهره للكل فقال: {وله} أي وحده بالملك الأتم.
{من في السماوات والأرض} أي كلهم، وأشار إلى الملك بقوله: {كلٌّ له} أي وحده. ولما كان انقياد الجمع مستلزماً لانقياد المفرد دون عكسه جمع في قوله: {قانتون} أي مخلصون في الانقياد ليس لأنفسهم ولا لمن سواه في الحقيقة والواقع تصرف بوجه ما إلا بإذنه.
تيسير التفسير لاطفيش 1332 هـ :
اجسامهم منقادة لواحدانية الله، ولو كان الكفر في القلب أو اللسان أو فيهما أو في الجوارح...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ولقد نرى أن الكثيرين من الناس لا قانتين لله ولا عابدين. ولكن هذا التقرير إنما يعني خضوع كل من في السماوات والأرض لإرادة الله ومشيئته التي تصرفهم وفق السنة المرسومة التي لا تتخلف ولا تحيد. فهم محكومون بهذه السنة ولو كانوا عصاة كافرين. إنما تعصى عقولهم وتكفر قلوبهم ولكنهم مع هذا محكومون بالناموس مأخوذون بالسنة، يتصرف فيهم خالقهم وفق ما يريد تصرفه بباقي العبيد وهم لا يملكون إلا الخضوع والقنوت...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
أتبع ذكر إقامة الله تعالى السماوات والأرض بالتذكير بأن كل العقلاء في السماوات والأرض عبيد لله تعالى فيكون من مكملات ما تضمنته جملة {ومن ءاياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25] فعطفت عليها هذه الجملة زيادة لبيان معنى إقامته السماءَ والأرض.
فاللام في قوله {وله من في السموات والأرض} لام الملك، واللام في قوله {كل له قانتون} لام التقوية، أي تقوية تعدية العامل إلى معموله لضعف العامل بكونه فرعاً في العَمل، وبتأخيره عن معموله، وعليه تكون {مَنْ} صادقة على العقلاء كما هو الغالب في استعمالها.
وظاهر معنى القنوت امتثال الأمر، فيجوز أن يكون المعنى: أنهم منقادون لأمره. وإذ قد كان في العقلاء عصاة كثيرون تعيَّن تأويل القنوت باستعماله في الامتثال لأمر التكوين، أو في الشهادة لله بالوحدانية بدلالة الحال، وهذا هو المقصود هنا لأن هذا الكلام أورد بعد ذكر الآيات الستّ إيرادَ الفذلكة بإثبات الوحدانية فلا يحمل قنوتهم على امتثالهم لما يأمرهم الله به من أمر التكليف مباشرة أو بواسطة لأن المخلوقات متفاوتون في الامتثال للتكليف؛ فالشيطان أمره الله مباشرة بالسجود لآدم فلم يمتثل، وآدم أمره الله مباشرة أن لا يأكل من الشجرة فأكل منها؛ إلا أن ذلك قبل ابتداء التكليف، والمخلوقات السماوية ممتثلون لأمره ساعون في مرضاته قال تعالى {وهم بأمره يعملون} [الأنبياء: 27]، وأما المخلوقات الأرضية العقلاء فهم مخلوقون للطاعة قال تعالى {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} [الذاريات: 56]، فزيغ الزائغين عن طاعة الله تعالى انحراف منهم عن الفطرة التي فطروا عليها، وهم في انحرافهم متفاوتون؛ فالضالّون الذين أشركوا بالله فجعلوا له أنداداً، والعصاة الذين لم يخرجوا عن توحيده، ولكنهم ربما خالفوا بعض أوامره قليلاً أو كثيراً، هم في ذلك آخذون بجانب من الإباق متفاوتون فيه. فجملة {وله من في السموات والأرض كل له قانتون} معطوفة على جملة {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره} [الروم: 25].
ويجوز أن تكون جملة {ولَه مَنْ فِي السَّمَاوات والأرض كُل لهُ قانِتُون} تكملة لجملة {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25] على معنى: وله يومئذ من في السموات والأرض كل له قانتون، فالقنوت بمعنى الامتثال الواقع في ذلك اليوم وهو امتثال الخضوع لأن امتثال التكليف قد انقضى بانقضاء الدنيا، أي لا يسعهم إلا الخضوع فيها يأمر الله به من شأنهم {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون} [النور: 24]، فتكون الجملة معطوفة على جملة {ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25].
نعرف أن (من) للعاقل، ولنا أن نسأل: لماذا خص العاقل مع أن كل ما في الكون خاضع لله طائع مسبح يدخل في دائرة القنوت لله؟
قالوا: لأن التمرد لا يأتي إلا من ناحية العقل؛ لذلك بدا الله به، أما الجماد الذي لا عقل له، فأمره يسير حيث لا يتأبى منه شيء على الله، لا الجماد ولا الحيوان ولا النبات.
{كل له قانتون} قالوا: لأنهم لما تمردوا على الله وكفروا به، أو تمردوا على حكمه فعصوه لم يتمردوا بذواتهم، إنما بما خلق الله فيهم من اختيار، ولو أرادهم سبحانه مقهورين ما شذ واحد منهم عن مراد ربه، والله عز وجل لا يريد أن يحكم الإنسان بقهر القدرة، إنما يريد لعبده أن يأتيه طواعية مختارا، بإمكانه أن يكفر ومع ذلك آمن، وبإمكانه أن يعصي ومع ذلك أطاع. فلو أرادهم الله مؤمنين ما وجدوا إلى الكفر سبيلا، ولعصمهم كما عصم الأنبياء.
{كل له قانتون} خاضعون، إما عن اختيار، وإما عن قهر في كل أمر لا اختيار لك فيه، إذن: فأنت قانت رغما عنك، وقنوتك مع تمردك أبلغ في الشهادة لله. إذن: فالمؤمن خاضع لله في منطقة الاختيار، وهي الإيمان والتكاليف، وخاضع لله فيما لا اختيار له فيه كالقضاء والأمور الاضطرارية، فهو يستقبلها عن رضا، أما الكافر فهو خاضع لله لا يستطيع الفكاك عن قضائه ولا عن قدره رغما عنه في الأمور التي لا اختيار له فيها، لكنه يستقبلها بالسخط وعدم الرضا، فهو كافر بالله كاره لقضائه. فنقول لمن تمرد على الله فكفر به، أو تمرد على أحكامه فعصاها: ما لكم لا تتمردون على الله فيما يقضيه عليكم من أمور اضطرارية؟ هذا دليل على أنكم اتخذتم الاختيار في غير محله؛ لأن الذي يختار ينبغي أن يأخذ الاختيار في كل شيء، لكن أن تختار في شيء ولا تختار في شيء آخر، فهذا لا يجوز...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
المالكية لله وحده: كانت الآيات المتقدمة تتحدث حول توحيد الخالق، وتوحيد الرّب، أمّا الآية الأُولى من هذه الآيات محل البحث فتتحدث عن فرع آخر من فروع التوحيد، وهو توحيد الملك فتقول: (وله من في السماوات والأرض). ولأنّهم ملك يده ف (كلٌّ له قانتون) وخاضعون.
وواضح أنّ المراد من المالكية وخضوع المخلوقات وقنوتها، الملك والقنوت التكوينيان... أي إن زمام أمر الجميع من جهة القوانين التكوينية كلّه في يده، وهم مستسلمون لقانون عالم التكوين وفق مشيئة الله، شاؤوا أم أبوا. حتى العُتاة الطغاة الألدّاء والمتمردون على القانون والجبابرة، هم مضطرون أيضاً أن يحنوا رؤوسهم لأمر الله في القوانين التكوينية. والدليل على هذه «المالكية» هو الخالقية والربوبية، فإنّ من خلق الموجودات في البداية وتكفلها بالتدبير، فمن المسلم أنّه هو المالك الأصلي لها لا سواه! وبما أنّ جميع موجودات الدنيا سواسية في هذا الأمر، فمن الواضح أن لا يكون معه أي شريك في الملك حتى الأوثان والمعبودات المصطنعة التي يتصورها المشركون أنّها أربابهم، هي أيضاً مملوكة لمالك «الملك» والملوك، وهي طوع أمره.
وينبغي الالتفات ضمناً إلى أنّ كلمة «قانت» تعني كما يقول الراغب في مفرداته في الأصل: الطاعة الملازمة للخضوع! ونقرأ حديثاً عن النّبي (صلى الله عليه وآله) أنّه قال «كل قنوت في القرآن فهو طاعة». غاية ما في الأمر، تارة تأتي هذه الطاعة «تكوينية» وأُخرى «تشريعية». وما ذهب إليه بعض المفسّرين من أنّ كلمة «قانتون» معناها هنا «قائمون بالشهادة على وحدانيته» فهو في الحقيقة بيان لأحد مصاديق الطاعة، لأنّ الشهادة على وحدانية الله نوع من الطاعات.