معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

قوله تعالى : { فما كان دعواهم } ، أي : قولهم ودعاؤهم ، وتضرعهم ، والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء ، قال سيبويه : تقول العرب : اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم .

قوله تعالى : { إذ جاءهم بأسنا } ، عذابنا .

قوله تعالى : إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } ، معناه لم يقدروا على رد العذاب ، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع الاعتراف .

 
التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

فما كان منهم عندما باغتهم العذاب في وقت اطمئنانهم وراحتهم إلى أن اعترفوا بذنوبهم وقالوا على سبيل التحسر والندم وطمعا في الخلاص : إنا كنا ظالمين .

فهاتان الآيتان الكريمتان توضحان بأجلى بيان أن هلاك الأمم سببه بغيها وفسادها وانحرافها عن الطريق المستقيم ، وتلك سنة الله التي لا تختلف في أى زمان أو مكان . وأن الظالمين عندما يفاجأون بالعقوبة يتحسرون ولا يستطيعون إنكار ما ارتكبوه من جرائم ومنكرات ولكن ذلك لن ينفعهم لأن ندمهم وتحسرهم قد فات وقته ، وكان الأجدر بهم أن يتوبموا من ذنوبهم عندما جاءتهم النذر ، وقبل حلول العذاب .

ولذا قال ابن كثير : قال ابن جرير : في هذه الآية الدالالة الواضحة في صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : " ما هلك قوم حتى يعذروا عن أنفسهم " .

و { أَوْ } في قوله : { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } للتنويع ، أى أن بعضهم جاءهم عذابنا ليلا وبعضهم جاءهم نهاراً عند استراحتهم . وإنما خص هذان الوقتان بنزول العذاب ، لأنهما وقتا غفلة ودعة واستراحة ، فيكون نزول العذاب فيهما أشد وأوجع .

ومن العبر التي نأخذها من هاتين الآيتين أن العاقل هو الذي يحافظ على أداء الأوامر واجتناب النواهى ، ولا يأمن صفو الليالى ، ورخاء الأيام ، بل يعيش حياته وصلته بربه مبنية على الخوف والرجاء فإنه { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون }

 
في ظلال القرآن لسيد قطب - سيد قطب [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

ثم ما الذي حدث ؟ إنه لم يكن لهؤلاء المأخوذين في غرتهم إلا الاعتراف ! ولم يكن لهم دعوى يدعونها إلا الإقرار !

( فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا : إنا كنا ظالمين ) . .

والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار ! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى ! ( إنا كنا ظالمين ) . . فياله من موقف مذهل رعيب مخيف ، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك !

إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك . فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن . . فالشرك هو الظلم . والظلم هو الشرك . وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه ؟ !

وبينما المشهد معروض في الدنيا ، وقد أخذ الله المكذبين ببأسه ، فاعترفوا وهم يعاينون بأس الله أنهم كانوا ظالمين ؛ وتكشف لهم الحق فعرفوه ، ولكن حيث لا تجدي معرفة ولا اعتراف ، ولا يكف بأس الله عنهم ندم ولا توبة . فإن الندم قد فات موعده ، والتوبة قد انقطعت طريقها بحلول العذاب . .

/خ25

 
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

القول في تأويل قوله تعالى : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاّ أَن قَالُوَاْ إِنّا كُنّا ظَالِمِينَ } .

يقول تعالى ذكره : فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها إذ جاءهم بأسنا وسطوتنا بياتا أو هم قائلون ، إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين وبربهم آثمين ولأمره ونهيه مخالفين . وعنى بقوله جلّ ثناؤه : دَعْواهُمْ في هذا الموضع دعاءهم . وللدعوى في كلام العرب وجهان : أحدهما الدعاء والاَخر الادّعاء للحقّ . ومن الدعوى التي معناها الدعاء قول الله تبارك وتعالى : فَمَا زَالَتْ تِلكَ دَعْوَاهُمْ ومنه قول الشاعر :

وَإنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ أَشْتَفي ***بدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِها فَيَهُونُ

وقد بيّنا فيما مضى قبل أن البأس والبأساء : الشدّة ، بشواهد ذلك الدالة على صحته ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع . وفي هذه الاَية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله : «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يُعْذِرُوا مِنْ أنْفُسِهِمْ » . وقد تأوّل ذلك كذلك بعضهم .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا جرير ، عن أبي سنان ، عن عبد الملك بن ميسرة الزرّاد ، قال : قال عبد الله بن مسعود ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يُعْذِرُوا مِنْ أنْفُسِهِمْ » قال : قلت لعبد الملك : كيف يكون ذلك ؟ قال : فقرأ هذه الاَية : فَمَا كانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جاءَهُمْ بأسُنا . . . الاَية

فإن قال قائل : وكيف قيل : فَمَا كانَ دَعْوَاهُمْ إذْ جاءَهُمْ بأْسُنا إلاّ أنْ قالُوا إنّا كُنّا ظالِمِينَ وكيف أمكنتهم الدعوى بذلك وقد جاءهم بأس الله بالهلاك ، أقالوا ذلك قبل الهلاك ؟ فإن كانوا قالوه قبل الهلاك ، فإنهم قالوا قبل مجيء البأس ، والله يخبر عنهم أنهم قالوه حين جاءهم لا قبل ذلك ، أو قالوه بعد ما جاءهم فتلك حالة قد هلكوا فيها ، فكيف يجوز وصفهم بقيل ذلك إذا عاينوا بأس الله وحقيقة ما كانت الرسل تعدهم من سطوة الله ؟ قيل : ليس كل الأمم كان هلاكها في لحظة ليس بين أوّله وآخره مهل ، بل كان منهم من غرق بالطوفان ، فكان بين أوّل ظهور السبب الذي علموا أنهم به هالكون وبين آخره الذي عمّ جميعهم هلاكه المدّة التي لا خفاء بها على ذي عقل ومنهم من متع بالحياة بعد ظهور علامة الهلاك لأعينهم أياما ثلاثة ، كقوم صالح وأشباههم ، فحينئذٍ لما عاينوا أوائل بأس الله الذي كانت رسل الله تتوعدهم به وأيقنوا حقيقة نزول سطوة الله بهم ، دعوا : يا وَيْلَنا إنّا كُنّا ظالِمِين فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ مع مجيء وعيد الله وحلول نقمته بساحتهم ، فحذّر ربنا جلّ ثناؤه الذين أرسل إليهم نبيه صلى الله عليه وسلم من سطوته وعقابه على كفرهم به وتكذيبهم رسوله ، ما حلّ بمن كان قبلهم من الأمم ، إذ عصوا رسله واتبعوا أمر كلّ جبار عنيد .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

{ فما كان دعواهم } أي دعاؤهم واستغاثتهم أو ما كانوا يدعونه من دينهم . { إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين } إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسرا عليهم .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

قوله : { فما كان دعواهم } يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله : { فجاءها بأسنا } لأنّه من بقيّة المذكور ، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس .

والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله : [ يونس : 10 ] وهو كثير في القرآن ، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب ، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة ، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى .

ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي : انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ ، فلم تبق لهم دعوى ، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون ، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى .

واقتصارهم على قولهم : { إنا كنا ظالمين } إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب ، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو ، فعوجلوا بالعذاب ، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدّنيا مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في الحشر ، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب .

وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم ، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه ، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام ، فمن اعتاد قول الخير نطق به ، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول ، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم .

والمراد بقولهم : { كنا ظالمين } أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد ، وتكذيب الرّسل ، والإعراض عن الآيات ، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله ، قال تعالى : { إنّ الشرك لظلم عظيم } [ لقمان : 13 ] ، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله : { ولا تتبعوا من دونه أولياء } [ الأعراف : 3 ] أي أنّ الله لم يظلمهم ، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين ، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم ، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم ، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار ، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون ، من قبل نزول العذاب ، وكانوا مصرين عليه ومكابرين ، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم ، فيكون الكلام ، إقراراً مشوباً بحسرة وندامة ، فالخبر مستعمل في معناه المجازي الصّريح ومعناه الكنائي ، والمعنى المجازي يجتمع مع الكناية باعتبار كونه مجازاً صريحاً .

وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن ، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد ، مثل الويل والثّبور ، فيكون الكلام مستعملاً في معناه المجازي ، أو يقوله بعضهم لبعض ، بينهم ، على معنى التّوبيخ ، والتّوقيف على الخطأ ، وإنشاء النّدامة ، فيكون مستعملاً في المعنى المجازي الصّريح ، والمعنى الكنائي ، على نحو ما قرّرتُه آنفاً .

والتّوكيد بإنّ لتحقيق للنّفس أو للمخاطبين على الوجهين المتقدّمين أو يكون قولهم ذلك في أنفسهم ، أو بين جماعتهم ، جارياً مجرى التّعليل لنزول البأس بهم والاعتراف بأنّهم جديرون به ، ولذلك أطلقوا على الشّرك حينئذ الاسم المشعر بمذمّته الذي لم يكونوا يطلقونه على دينهم من قبل .

واسم كان هو : { أن قالوا } المفرغ له عمل كان ، و { دعواهم } خبر ( كان ) مقدّم ، لقرينة عدم اتّصال كان بتاء التّأنيث ، ولو كان : ( دعوى ) هو اسمها لكان اتّصالها بتاء التّأنيث أحسن ، وللجري على نظائره في القرآن وكلام العرب في كلّ موضع جاء فيه المصدر المؤول من أنْ والفعل محصوراً بعد كان ، نحو قوله تعالى : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } [ الأعراف : 82 ] { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } [ آل عمران : 147 ] وغير ذلك ، وهو استعمال ملتزم ، غريب ، مطّرد في كلّ ما وقع فيه جزء الإسناد ذاتين أريد حصر تحقّق أحدهما في تحقّق الآخر لأنّهما لمَّا اتّحدا في الماصْدق ، واستويا في التّعريف كان المحصور أولى باعتبار التّقدّم الرّتبي ، ويتعيّن تأخيره في اللّفظ ، لأنّ المحصور لا يكون إلاّ في آخر الجزأين ، ألا ترى إلى لزوم تأخير المبتدأ المحصورِ . واعلم أن كون أحد الجزأين محصوراً دون الآخر في مثل هذا ، ممّا الجزآن فيه متحدَا الماصْدق ، إنّما هو منوط باعتبار المتكلّم أحدهما هو الأصلَ والآخر الفرع ، ففي مثل هذه الآية اعتبر قولهم هو المترقّب من السّامع للقصّة ابتداء ، واعتبر الدّعاء هو المترقّب ثانياً ، كأنّ السّامع يسأل : ماذا قالوا لمَّا جاءهم البأس ، فقيل له : كان قولهم : { إنا كنا ظالمين } دعاءَهم ، فأفيد القول وزيد بأنّهم فرّطوا في الدّعاء ، وهذه نكتة دقيقة تنفعك في نظائر هذه الآية ، مثل قوله : { فما كان جواب قومه إلا أن قالوا أخرجوهم } [ الأعراف : 82 ] ، على أنّه قد قيل : إنّه لاطِّراد هذا الاعتبار مع المصدر المؤول من ( أن ) والفعل عِلَّة لفْظيّة : وهي كون المصدر المؤول يشبه الضّمير في أنّه لا يوصف ، فكان أعرف من غيره ، فلذلك كان حقيقاً بأن يكون هو الاسم ، لأنّ الأصل أنّ الاعرف من الجُزأين وهو الذي يكون مسنداً إليه .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{فَمَا كَانَ دَعۡوَىٰهُمۡ إِذۡ جَآءَهُم بَأۡسُنَآ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ إِنَّا كُنَّا ظَٰلِمِينَ} (5)

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره: فلم يكن دعوى أهل القرية التي أهلكناها إذ جاءهم بأسنا وسطوتنا بياتا أو هم قائلون، إلا اعترافهم على أنفسهم بأنهم كانوا إلى أنفسهم مسيئين، وبربهم آثمين، ولأمره ونهيه مخالفين. وعنى بقوله جلّ ثناؤه: دَعْواهُمْ في هذا الموضع: دعاءهم. وللدعوى في كلام العرب وجهان: أحدهما الدعاء، والآخر: الادّعاء للحقّ. وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: «ما هَلَكَ قَوْمٌ حتى يُعْذِرُوا مِنْ أنْفُسِهِمْ»...

تفسير القرآن للسمعاني 489 هـ :

معناه: لم يقدروا على رد العذاب حين جاءهم العذاب، وكان حاصل أمرهم أن اعترفوا بالخيانة حين لا ينفع الاعتراف...

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} ما كانوا يدعونه من دينهم وينتحلونه من مذهبهم إلاّ اعترافهم ببطلانه وفساده. وقولهم: {إِنَّا كُنَّا ظالمين} فيما كنا عليه. ويجوز: فما كان استغاثتهم إلاّ قولهم هذا، لأنه لا مستغاث من الله بغيره... ويجوز، فما كان دعواهم ربهم إلاّ اعترافهم لعلمهم أن الدعاء لا ينفعهم، وأن لات حين دعاء، فلا يزيدون على ذمّ أنفسهم وتحسرهم على ما كان منهم...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

...كأنه قال لم يكن دعاء أو ادعاء إلا الإقرار والاعتراف، أي هذا كان بدل الدعاء أو الادعاء، وتحتمل الآية أن يكون المعنى فما آلت دعواهم التي كانت في حال كفرهم إلا إلى اعتراف...

جهود القرافي في التفسير 684 هـ :

ومعنى هذه الآية: أن بأس الله تعالى إذا جاء تشتد داعية المعذب الجاني لطلب المعاذير والحجج ليندفع عنه العذاب. فالله تعالى يقول: ما كانت طلباتهم للمعاذير إلا اعترافهم بالجنايات، وهو عكس طلب العذر، فالإخبار بذلك أشد في الوعيد وأبلغ في الزجر عن الكفر.

تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :

والعبرة في الآية: أن كل مذنب يقع عليه عقاب ذنبه في الدنيا يندم ويتحسر ويعترف بظلمه وجرمه إذا علم أنه هو سبب العقاب، وما كل معاقب يعلم ذلك لأن من الذنوب ما يجهل أكثر الناس أنه سبب للعقاب، وأما الذنوب التي مضت سنة الله تعالى بجعل عقابها أثرا لازما لها في الدنيا فلا تطرد في الأفراد كاطرادها في الأمم، ولا تكون دائما متصلة باقتراف الذنب، بل كثيرا ما تقع على التراخي فلا يشعر فاعلها بأنها أثر له، وأما ذنوب الأمم فعقابها في الدنيا مطرد ولكن لها آجالا ومواقيت أطول من مثلها في ذنوب الأفراد وتختلف باختلاف أحوالها في القوة والضعف كما تختلف في الأفراد بل أشد...

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(فما كان دعواهم إذ جاءهم بأسنا إلا أن قالوا: إنا كنا ظالمين).. والإنسان يدعي كل شيء إلا الاعتراف والإقرار! ولكنهم في موقف لا يملكون أن يدعوا إلا هذه الدعوى! (إنا كنا ظالمين).. فياله من موقف مذهل رعيب مخيف، ذلك الذي يكون أقصى المحاولة فيه هو الاعتراف بالذنب والإقرار بالشرك! إن الظلم الذي يعنونه هنا هو الشرك. فهذا هو المدلول الغالب على هذا التعبير في القرآن.. فالشرك هو الظلم. والظلم هو الشرك. وهل أظلم ممن يشرك بربه وهو خلقه؟!

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

قوله: {فما كان دعواهم} يصحّ أن تكون الفاء فيه للترتيب الذّكري تبعاً للفاء في قوله: {فجاءها بأسنا} لأنّه من بقيّة المذكور، ويصحّ أن يكون للتّرتيب المعنوي لأنّ دعواهم ترتّبت على مجيء البأس.

والدعوى اسم بمعنى الدّعاء كقوله: [يونس: 10] وهو كثير في القرآن، والدّعاء هنا لرفع العذاب أي الاستغاثة عند حلول البأس وظهور أسباب العذاب، وذلك أنّ شأن النّاس إذا حلّ بهم العذاب أن يجأروا إلى الله بالاستغاثة، ومعنى الحصر أنّهم لم يستغيثوا الله ولا توجّهوا إليه بالدّعاء ولكنّهم وضعوا الاعتراف بالظّلم موضع الاستغاثة فلذلك استثناه الله من الدّعوى.

ويجوز أن تكون الدّعوى بمعنى الادّعاء أي: انقطعت كلّ الدّعاوي التي كانوا يدعونها من تحقيق تعدّد الآلهة وأنّ دينهم حقّ، فلم تبق لهم دعوى، بل اعترفوا بأنّهم مبطلون، فيكون الاستثناء منقطعاً لأنّ اعترافهم ليس بدعوى.

واقتصارهم على قولهم: {إنا كنا ظالمين} إمَّا لأنّ ذلك القول مقدّمة التّوبة لأنّ التّوبة يتقدّمها الاعتراف بالذّنب، فهم اعترفوا على نيّة أن ينتقلوا من الاعتراف إلى طلب العفو، فعوجلوا بالعذاب، فكان اعترافهم آخر قولهم في الدّنيا مقدّمة لشهادةِ ألسنتهم عليهم في الحشر، وإمّا لأنّ الله أجرى ذلك على ألسنتهم وصرفهم عن الدّعاء إلى الله ليحرمهم موجبات تخفيف العذاب.

وأيّاً ما كان فإنّ جريان هذا القول على ألسنتهم كان نتيجة تفكّرهم في ظلمهم في مدّة سلامتهم، ولكنّ العنادَ والكبرياء يصدّانهم عن الإقلاع عنه، ومن شأن مَن تصيبه شدّة أن يَجري على لسانه كلام، فمن اعتاد قول الخير نطق به، ومن اعتاد ضدّه جرى على لسانه كلام التّسخّط ومُنكر القول، فلذلك جرى على لسانهم ما كثر جولانه في أفكارهم.

والمراد بقولهم: {كنا ظالمين} أنّهم ظلموا أنفسهم بالعناد، وتكذيب الرّسل، والإعراض عن الآيات، وصم الأذان عن الوعيد والوعظ، وذلك يجمعه الإشراكُ بالله، قال تعالى: {إنّ الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13]، وذلك موضع الاعتبار للمخاطبين بقوله: {ولا تتبعوا من دونه أولياء} [الأعراف: 3] أي أنّ الله لم يظلمهم، وهو يحتمل أنّهم عَلموا ذلك بمشاهدة العذاب وإلهامِهم أنّ مثل ذلك العذاب لا ينزل إلاّ بالظّالمين، أو بوجدانهم إياه على الصّفة الموعود بها على ألْسنة رسلهم، فيكون الكلام إقراراً محضاً أقرّوا به في أنفسهم، فصيغة الخبرِ مستعملة في إنشاء الإقرار، ويحتمل أنّهم كانوا يعلمون أنّهم ظالمُون، من قبل نزول العذاب، وكانوا مصرين عليه ومكابرين، فلمّا رأوا العذاب ندموا وأنصفوا من أنفسهم...

وهذا القول يقولونه لغير مخاطَب معيَّن، كشأن الكلام الذي يجري على اللّسان عند الشّدائد، مثل الويل والثّبور...