ثم بين - سبحانه - صفات عباده المؤمنين الصادقين فقال : { إِنَّمَا المؤمنون الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله أولئك هُمُ الصادقون } .
أى : إنما المؤمنون حق الإِيمان وأكمله ، هم الذين آمنوا بالله - تعالى - ورسوله - صلى الله عليه وسلم - { ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أى : لم يدخل قلوبهم شئ من الريبة أو الشك فيما أخبرهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
وأتى - سبحانه - بثم التى للتراخى ، للتنبيه على أن نفى الريب عنهم ليس مقصوار على وقت إيمانهم فقط ، بل هو مستمر بعد ذلك إلى نهاية أجالهم ، فكأنه - سبحانه - يقول : إنهم آمنوا عن يقين ، واستمر معهم هذا اليقين إلى النهاية .
ثم أتبع ذلك ببيان الثمار الطيبة التى ترتبت على هذا الإيمان الصادق فقال : { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } .
أى : وبذلوا من أجل إعلاء كلمة الله - تعالى - ، ومن أجل دينه أموالهم وأنفسهم .
قال الآلوسى : وتقديم الأموال على الأنفس من باب الترقى من الأدنى إلى الأعلى . ويجوز بأن يقال : قدم الأمول لحرص الكثيرين عليها ، حتى إنهم يهلكون أنفسهم بسببها . .
{ أولئك هُمُ الصادقون } أى : أولئك الذين فعلوا ذلك هم الصادقون فى إيمانهم .
( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله . ثم لم يرتابوا . وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله . أولئك هم الصادقون ) .
فالإيمان تصديق القلب بالله وبرسوله . التصديق الذي لا يرد عليه شك ولا ارتياب . التصديق المطمئن الثابت المستيقن الذي لا يتزعزع ولا يضطرب ، ولا تهجس فيه الهواجس ، ولا يتلجلج فيه القلب والشعور . والذي ينبثق منه الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله . فالقلب متى تذوق حلاوة هذا الإيمان واطمأن إليه وثبت عليه ، لا بد مندفع لتحقيق حقيقته في خارج القلب . في واقع الحياة . في دنيا الناس . يريد أن يوحد بين ما يستشعره في باطنه من حقيقة الإيمان ، وما يحيط به في ظاهره من مجريات الأمور وواقع الحياة . ولا يطيق الصبر على المفارقة بين الصورة الإيمانية التي في حسه ، والصورة الواقعية من حوله . لأن هذه المفارقة تؤذيه وتصدمه في كل لحظة . ومن هنا هذا الانطلاق إلى الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس . فهو انطلاق ذاتي من نفس المؤمن . يريد به أن يحقق الصورة الوضيئة التي في قلبه ، ليراها ممثلة في واقع الحياة والناس والخصومة بين المؤمن وبين الحياة الجاهلية من حوله خصومة ذاتية ناشئة من عدم استطاعته حياة مزدوجة بين تصوره الإيماني ، وواقعه العملي . وعدم استطاعته كذلك التنازل عن تصوره الإيماني الكامل الجميل المستقيم في سبيل واقعه العملي الناقص الشائن المنحرف . فلا بد من حرب بينه وبين الجاهلية من حوله ، حتى تنثني هذه الجاهلية إلى التصور الإيماني والحياة الإيمانية .
( أولئك هم الصادقون ) . . الصادقون في عقيدتهم . الصادقون حين يقولون : إنهم مؤمنون . فإذا لم تتحقق تلك المشاعر في القلب ، ولم تتحقق آثارها في واقع الحياة ، فالإيمان لا يتحقق . والصدق في العقيدة وفي ادعائها لا يكون .
ونقف قليلا أمام هذا الاحتراس المعترض في الآية : ( إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله - ثم لم يرتابوا - ) . . إنه ليس مجرد عبارة . إنما هو لمس لتجربة شعورية واقعية . وعلاج لحالة تقوم في النفس . حتى بعد إيمانها . . ( ثم لم يرتابوا )وشبيه بها الاحتراس في قوله تعالى . . ( إن الذين قالوا ربنا الله . . ثم استقاموا . . )فعدم الارتياب . والاستقامة على قولة : ربنا الله . تشير إلى ما قد يعتور النفس المؤمنة - تحت تأثير التجارب القاسية ، والابتلاءات الشديدة - من ارتياب ومن اضطراب . وإن النفس المؤمنة لتصطدم في الحياة بشدائد تزلزل ، ونوازل تزعزع . والتي تثبت فلا تضطرب ، وتثق فلا ترتاب ، وتظل مستقيمة موصولة هي التي تستحق هذه الدرجة عند الله .
والتعبير على هذا النحو ينبه القلوب المؤمنة إلى مزالق الطريق ، وأخطار الرحلة ، لتعزم أمرها ، وتحتسب ، وتستقيم ، ولا ترتاب عندما يدلهم الأفق ، ويظلم الجو ، وتناوحها العواصف والرياح !
القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا الْمُؤْمِنُونَ الّذِينَ آمَنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمّ لَمْ يَرْتَابُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلََئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره للأعراب الذين قالوا آمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبهم : إنما المؤمنون أيها القوم الذين صدّقوا الله ورسوله ، ثم لم يرتابوا ، يقول : ثم لم يشكوا في وحدانية الله ، ولا في نبوّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وألزم نفسه طاعة الله وطاعة رسوله ، والعمل بما وجب عليه من فرائض الله بغير شكّ منه في وجوب ذلك عليه وَجاهَدُوا بأمْوَالِهِمْ وأنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ يقول : جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم ، وبذل مُهَجِهم في جهادهم ، على ما أمرهم الله به من جهادهم ، وذلك سبيله لتكون كلمة الله العليا ، وكلمة الذين كفروا السفَلى .
وقوله : أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقُونَ يقول : هؤلاء الذين يفعلون ذلك هم الصادقون في قولهم : إنا مؤمنون ، لا من دخل في الملة خوف السيف ليحقن دمه وماله . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أُولَئِكَ هُمُ الصّادِقونَ قال : صدّقوا إيمانهم بأعمالهم .
{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } لم يشكوا من ارتاب مطاوع رابه إذا أوقعه في الشك مع التهمة ، وفيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإيمان عنهم ، و { ثم } للإشعار بأن اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس حال الإيمان فقط بل فيه وفيما يستقبل فهي كما في قوله : { ثم استقاموا } . { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } في طاعته والمجاهدة بالأموال والأنفس تصلح للعبادات المالية والبدنية بأسرها . { أولئك هم الصادقون } الذين صدقوا في ادعاء الإيمان .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.