محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ ثُمَّ لَمۡ يَرۡتَابُواْ وَجَٰهَدُواْ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِۚ أُوْلَـٰٓئِكَ هُمُ ٱلصَّـٰدِقُونَ} (15)

ثم بين تعالى الإيمان ، وما به يكون المؤمن مؤمنا ، بقوله :

{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون 15 } .

{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا } أي لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله ونبوة نبيه ، وألزموا نفوسهم طاعة الله ، وطاعة رسوله ، والعمل بما وجب عليهم من فرائض الله بغير شك في وجوب ذلك عليهم . { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } أي جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم ، وبذل مهجهم في جهادهم ، على ما أمرهم الله به من جهادهم ، وذلك سبيله ، لتكون كلمة الله العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى – قاله ابن جرير :{[6706]} وقدّمنا مرارا أن قصر ( سبيل الله ) على غزو الكفار المعتدين ، من باب قصر العام على أهم أفراده وأعلاها ، وإلا فسبيل الله يعم العبادات والطاعات كلها ، لأنها في سبيله وجهته .

/ قال الشهاب : وقدم الأموال ، لحرص الإنسان عليها ، فإن ماله شقيق روحه . و { جاهدوا } بمعنى : بذلوا الجهد . أو مفعوله مقدر ، أي العدّو أو النفس والهوى .

{ أولئك هم الصادقون } أي الذين صدقوا في ادّعاء الإيمان ، لظهور أثر الصدق على جوارحهم ، وتصديق أفعالهم وأقوالهم . وفيه تعريض يكذب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للحصر . أي : هم الصادقون ، لا هؤلاء ، أو إيمانهم إيمان صدق وجد .

تنبيهات :

الأول – قال في ( الإكليل ( : في الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان . وقدمنا . أن هذا ما لا خلاف فيه بين السلف ، وليراجع في ذلك ما بسطه ابن حزم رحمه الله في ( الفِصَل ( .

الثاني – قال القاشانيّ : في قوله تعالى : { إنما المؤمنون . . } الآية إشارة إلى الإيمان المعتبر الحقيقيّ ، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه ، لا الذي يكون على سبيل الخطرات ، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم ، ونورتها بأنوارها ، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح ، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها ، والتسخر لهيأتها ، وذلك معنى قوله : { وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله } بعد نفي الارتياب عنهم ، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ ، وأثره في الظاهر . انتهى .

الثالث – قال في ( الكشاف ( : فإن قلت : ما معنى { ثم } ههنا ، وهي للتراخي . وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان ، لأنه وصف فيه ، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب ؟ قلت : الجواب على طريقين :

أحدهما- أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان ، أو بعض المضلين ، بعد ثلج الصدر ، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه . أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك ، ثم يستمر على ذلك ، راكبا رأسه ، لا يطلب له مخرجا . فوصف المؤمنون حقا بالبعد عن هذه الموبقات . ونظيره قوله : { ثم استقاموا } .

/ والثاني – أن الإيقان وزوال الريب ، لما كان ملاك الإيمان ، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان ، تنبيها على مكانه . وعطف على الإيمان بكلمة التراخي ، إشعارا باستقرار له في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضًّا جديدا . انتهى .

يعني : أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد ، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم تحدث لهم ريبة ، فالتراخيّ زمانيّ لا رتبيّ على ما مرّ في قوله : { ثم استقاموا } . أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة ، تنبيها على أصالته في الإيمان ، حتى كأنه شيء آخر . فثم دلالة على استمراره قديما وحديثا .


[6706]:انظر الصفحة رقم 144 من الجزء السادس والعشرين(طبعة الحلبي الثانية(