ثم بين - سبحانه - أنه لم يخلق السموات والأرض عبثا ، وأن حكمته اقتضت عدم المساواة بين الأخيار والأشرار ، وأن هذا القرآن قد أنزله - سبحانه - لتدبير آياته ، والعمل بتوجيهاته فقال - تعالى - :
{ وَمَا خَلَقْنَا السمآء . . . } .
المراد بالباطل فى قوله - تعالى - : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً . . . } العبث واللهو واللعب وما يخالف الحق ، والجملة الكريمة مستأنفة لتقرير أن يوم القيامة حق ، وأن كفر الكافرين به ضلال وجهل . وقوله { بَاطِلاً } صفة لمصدر محذوف ، أو مفعول لأجله . أى : وما خلقنا - بقدرتنا التى لا يعجزها شئ - السموات والأرض وما بينهما من مخلوقات لا يعلمها إلا الله - تعالى - . . ما خلقنا ذلك خلقا باطلا لا حكمة فيه ، أو خلقناه من أجل متابعة الهوى وترك العدل والصواب .
وإنما خلقنا هذا الكون خلقا مشتملا على الحكم الباهرة ، وعلى المصالح الجمة والأسرار البليغة ، والمنافع التى لا يحصيها العد ، والهيئات والكيفيات التى تهدى من يتفكر فيها إلى اتباع الحق والرشاد .
واسم الإِشارة فى قوله - سبحانه - : { ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ . . . } يعود إلى ما نفاه - سبحانه - من خلقه للسموات والأرض وما بينهما على سبيل اللهو والعبث .
أى : نحن ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا خلقا مشتملا على الحكم الباهرة . . ولكن الذين كفرواهم الذين يظنون ويعتقدون أننا خلقنا هذه الكائنات من أجل الباطل واللهو واللعب . . وسبب هذا الظن والاعتقاد الفاسد منهم ، كفرُهم بالحق ، وجحودُهم ليوم القيامة وما فيه من حساب وثواب وعقاب ، وإعراضهم عما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم من هدايات وإرشادات .
وقوله - تعالى - : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار } بيان للعاقبة السيئة التى حلت بهم بسبب هذا الظن الفاسد . . فالفاء : للتفريع على ظنهم الباطل والويل : الهلاك والدمار .
و { من } ابتدائية أو بيانية أو تعليلية . أى : القول بأن خلق هذا الكون خال من الحكمة ، هو ظن واعتقاد الذين كفروا وحدهم ، وما دام هذا مظنونهم ومعتقدهم فهلاك لهم كائن من النار التى نسلطها عليهم فتحرق أجسادهم ، وتجعلهم يذوقون العذاب المهين .
وقال - سبحانه - { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ . . . } بالإِظهار فى مقام الإِضمار ، للإِشعار بعلية صلة الموصول للحكم أى : أن هذا الويل والهلاك كائن لهم بسبب كفرهم .
وقال - سبحانه - : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } ولم يقل للذين ظنوا للإِشارة إلى أن ظنهم القبيح هذا ، ما هو إلا نتيجة كفرهم وجحودهم للحق .
وعند تقرير مبدأ الحق في خلافة الأرض ، وفي الحكم بين الناس . . وقبل أن تمضي قصة داود إلى نهايتها في السياق . . يرد هذا الحق إلى أصله الكبير . أصله الذي تقوم عليه السماء والأرض وما بينهما . أصله العريق في كيان هذا الكون كله . وهو أشمل من خلافة الأرض ، ومن الحكم بين الناس . وهو أكبر من هذه الأرض . كما أنه أبعد مدى من الحياة الدنيا . إذ يتناول صميم الكون كما يتناول الحياة الآخرة . ومنه وعليه جاءت الرسالة الأخيرة ، وجاء الكتاب المفسر لذلك الحق الشامل الكبير :
وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً . ذلك ظن الذين كفروا . فويل للذين كفروا من النار . أن نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ? أن نجعل المتقين كالفجار ? كتاب أنزلناه إليك مبارك ، ليدبروا آياته ، وليتذكر أولو الألباب . .
وهكذا : في هذه الآيات الثلاث ، تتقرر تلك الحقيقة الضخمة الهائلة الشاملة الدقيقة العميقة . بكل جوانبها وفروعها وحلقاتها . .
إن خلق السماء والأرض وما بينهما لم يكن باطلاً ، ولم يقم على الباطل . إنما كان حقاً وقام على الحق . ومن هذا الحق الكبير تتفرع سائر الحقوق . الحق في خلافة الأرض . والحق في الحكم بين الخلق . والحق في تقويم مشاعر الناس وأعمالهم ؛ فلا يكون الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض ؛ ولا يكون وزن المتقين كوزن الفجار . والحق الذي جاء به الكتاب المبارك الذي أنزله الله ليتدبروا آياته وليتذكر أصحاب العقول ما ينبغي أن يتذكروه من هذه الحقائق الأصيلة ، التي لا يتصورها الكافرون ، لأن فطرتهم لا تتصل بالحق الأصيل في بناء هذا الكون ، ومن ثم يسوء ظنهم بربهم ولا يدركون من أصالة الحق شيئاً . . ( ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار ) . .
إن شريعة الله للناس طرف من ناموسه في خلق الكون . وإن كتابه المنزل بيان للحق الذي يقوم عليه الناموس . وإن العدل الذي يطالب به الخلفاء في الأرض والحكام بين الناس إنما هو طرف من الحق الكلي ، لا يستقيم أمر الناس إلا حين يتناسق مع بقية الأطراف . وإن الانحراف عن شريعة الله والحق في الخلافة والعدل في الحكم إنما هو انحراف عن الناموس الكوني الذي قامت عليه السماء والأرض ؛ وهو أمر عظيم إذن وشر كبير ، واصطدام مع القوى الكونية الهائلة لا بد أن يتحطم في النهاية ويزهق . فما يمكن أن يصمد ظالم باغ منحرف عن سنة الله وناموس الكون وطبيعة الوجود . . ما يمكن أن يصمد بقوته الهزيلة الضئيلة لتلك القوى الساحقة الهائلة ، ولعجلة الكون الجبارة الطاحنة !
وهذا ما ينبغي أن يتدبره المتدبرون وأن يتذكره أولو الألباب . .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السّمَآءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لّلّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النّارِ } :
يقول تعالى ذكره : وَما خَلَقْنا السّماءَ والأرْضَ وَما بَيْنَهُما عبثا ولهوا ، ما خلقناهما إلاّ ليُعمل فيهما بطاعتنا ، ويُنتهى إلى أمرنا ونهينا ، ذلكَ ظَنّ الّذِينَ كَفَرُوا يقول : أي ظنّ أنا خلقنا ذلك باطلاً ولعبا ، ظنّ الذين كفروا بالله فلم يوحّدوه ، ولم يعرفوا عظمته ، وأنه لا ينبغي أن يَعْبَث ، فيتيقنوا بذلك أنه لا يخلق شيئا باطلاً فَوَيْلٌ للّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النّارِ يعني : من نار جهنم .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.