معالم التنزيل في تفسير القرآن الكريم للبغوي - البغوي  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

قوله تعالى :{ ألم*غلبت الروم* في أدنى الأرض } .

سبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال ، وكان المشركون يودون أن تغلب فارس الروم ، لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين ، والمسلمون يودون غلبة الروم على فارس ، لكونهم أهل كتاب ، فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليها رجلاً يقال له شهرمان ، وبعث قيصر جيشاً عليهم رجل يدعى بخين ، فالتقيا بأذرعات وبصرى ، وهي أدنى الشام إلى أرض العرب والعجم ، فغلبت فارس الروم ، فبلغ ذلك المسلمين بمكة ، فشق عليهم ، وفرح به كفار مكة ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون ، وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، فخرج أبو بكر الصديق إلى الكفار ، فقال : فرحتم بظهور إخوانكم ، فلا تفرحوا فوالله ليظهرن على فارس على ما أنبأنا بذلك نبينا ، فقام إليه أبي بن خلف الجمحي فقال : كذبت ، فقال : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه والمناحبة : المراهنة على عشر قلائص مني وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت ، ففعلوا ، وجعلوا الأجل ثلاث سنين ، فجاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ، وذلك قبل تحريم القمار ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع ، فزايده في الخطر وماده في الأجل ، فخرج أبو بكر ولقي أبياً ، فقال : لعلك ندمت ؟ قال : لا ، فتعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص ومائة قلوص إلى تسع سنين ، وقيل إلى سبع سنين ، قال قد فعلت . فلما خشي أبي بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه ، وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً ، فكفل له ابنه عبد الله بن أبي بكر ، فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه ، فقال : لا والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً ، فأعطاه كفيلاً . ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبي بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بارزه ، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم . وقيل : كان يوم بدر . قال الشعبي : لم تمض تلك المدة التي عقدوا المناحبة بين أهل مكة ، وفيها صاحب قمارهم أبي بن خلف ، والمسلمون وصاحب قمارهم أبو بكر ، وذلك قبل تحريم القمار ، حتى غلبت الروم فارس وربطوا خيولهم بالمدائن وبنو الرومية فقمر أبو بكر أبياً وأخذ مال الخطر من ورثته ، فجاء به يحمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : تصدق به . وكان سبب غلبة الروم فارساً على ما قال عكرمة وغيره : أن شهرمان بعدما غلبت الروم لم يزل يطؤهم ويخرب مدائنهم حتى بلغ الخليج ، فبينا أخوه فرحان جالس ذات يوم يشرب فقال لأصحابه : لقد رأيت كأني جالس على سرير كسرى ، فبلغت كلمته كسرى ، فكتب إلى شهرمان : إذا أتاك كتابي فابعث إلي برأس فرحان ، فكتب إليه : أيها الملك إنك لن تجد مثل فرحان ، إن له نكاية وصولة في العدو ، فلا تفعل البتة ، فكتب إليه : إن في رجال فارس خلفاً منه ، فعجل برأسه ، فراجعه فغضب كسرى ولم يجبه ، وبعث بريداً إلى أهل فارس إني قد نزعت عنكم شهرمان واستعملت عليكم فرحان الملك ، ثم دفع إلى البريد صحيفة صغيرة أمره فيها بقتل شهرمان ، وقال : إذا ولي فرحان الملك وانقاد له أخوه فأعطه ، فلما قرأ شهرمان الكتاب قال : سمعاً وطاعة ، ونزل عن سريره وجلس فرحان ورفع إليه الصحيفة ، فقال : ائتوني بشهرمان ، فقدمه ليضرب عنقه ، فقال : لا تعجل علي حتى أكتب وصيتي . قال : نعم ، فدعا بالسفط فأعطاه ثلاث صحائف ، وقال : كل هذا راجعت فيك كسرى ، وأنت تريد أن تقتلني بكتاب واحد ؟ فرد الملك إلى أخيه ، وكتب شهرمان إلى قيصر ملك الروم إن لي إليك حاجة لا تحملها البرد ، ولا تبلغها الصحف ، فالقني ، ولا تلقني إلا في خمسين رومياً ، فإني ألقاك في خمسين فارسيا ، فأقبل قيصر في خمسمائة ألف رومي وجعل يضع العيون بين يديه في الطريق وخاف أن يكون قد مكر به حتى أتاه عيونه أنه ليس معه إلا خمسون رجلا ، ثم بسط لهما ، فالتقيا في قبة ديباج ضربت لهما ومع كل واحد منهما سكين ، فدعوا بترجمان بينهما فقال شرهمان : إن الذين خرجوا مدائنك أنا وأخي بكيدنا وشجاعتنا وإن كسرى حسدنا وأراد أن أقتل أخي ، فأبيت ث'م أمر أخي أن يقتلني ، فقد خلعناه جميعا ، فنحن نقاتله معك قال قد أصبتما ثم أشار أحدهما إلى صاحبه أن السر بين اثنين ، فإذا جاوز اثنين فشا ، فقتلا الترجمان معا بسكينهما ، فأديلت الروم على فارس عند ذلك ، فاتبعوهم يقتلونهم ومات كسرى وجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حديبية ففرح ومن معه ، فذلك قوله عز وجل ( الم غلبت الروم في أدنى الأرض )أي أقرب أرض الشام إلى أرض فارس ، قال عكرمة هي أذرعات وكسكر ، وقال مجاهد أرض الجزيرة ، وقال مقاتل الأردن وفلسطين{ وهم من بعد غلبهم } أي : الروم من بعد غلبة فارس إياهم والغلب والغلبة لغتان{ سيغلبون }فارس .