بحر العلوم لعلي بن يحيى السمرقندي - السمرقندي  
{فِيٓ أَدۡنَى ٱلۡأَرۡضِ وَهُم مِّنۢ بَعۡدِ غَلَبِهِمۡ سَيَغۡلِبُونَ} (3)

{ فِي أَدْنَى الأرض } مما يلي فارس ، يعني : أرض الأردن وفلسطين { وَهُمْ } يعني :أهل الروم { مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } أهلَ فارس . وذلك أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر ملك الروم ، يدعوه إلى الإسلام ، فقرأ كتابه ، وقبّله ووضعه على عينيه وختمه بخاتمه ، ثم أوثقه على صدره ، ثم كتب جواب كتابه : " إنا نشهد أنك نبي ولكنا لا نستطيع أن نترك الدين القديم الذي اصطفى الله عز وجل لعيسى ، فعجب النبي صلى الله عليه وسلم وقال : «قَدْ ثَبَّتَ الله مُلْكَهُمْ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إلَى أدْنَى الأرض مِنْهَا فيفَتْحِ الله عَزَّ وَجَلَّ عَلَى المُسْلِمِينَ » .

وكتب إلى كسرى ملك فارس فمزَّق كتابه ، ورجع الرسول بعدما أراد قتله ، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال عليه السلام : «قَد مَزَّقَ الله مُلُكهم فلا مُلكَ لَهُمْ أبَداً . إذا ماتَ كِسْرَى فلا كِسْرَى بَعْدَهُ » فلمّا ظهرت فارس على الروم ، اغتمَّ المسلمون لذلك ، { وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } .

وقال في رواية الكلبي : إن مشركي قريش شمتوا حين غلب المشركون أهل الكتاب ، فقال لهم أبو بكر رضي الله عنه لمَ تشمتون ؟ فوالله ليظهرنَّ الروم عليهم . فقال أبيُّ بن خلف : والله لا يكون ذلك أبداً فتبايع أبو بكر وأبيّ بن خلف لتظهرن الروم على أهل فارس إلى ثلاث سنين على تسع ذود . فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالأمر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «انْطلِقْ فَزِدْهُ فِي الخَطَرِ ، وَمُدَّهُ فِي الأجَلِ » فرجعَ أبو بكر إلى أبيّ بن خلف ، فقال : أنا أبايعك إلى سبع سنين على عشرة ذَود ، فبايعه فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة إلى المدينة مهاجراً أتاه فلزمه ، فكفل له عبد الرحمن بن أبي بكر . فلما أراد أبي بن خلف أن يخرج إلى أحدُ أتاه محمد بن أبي بكر ، فلزمه ، فأعطاه كفيلاً ، ثم خرج إلى أحدُ فظهرت الرُّوم على فارس عام الحديبية ، وذلك عند رأس سبع سنين ، فذلك قوله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون بِنَصْرِ الله } .

وروى أسباط ، عن السدي ، عن أصحابه ، قال : اقتتلت فارس والروم ، فغلبتهم فارس ، ففخر أبو سفيان بن حرب على المسلمين ، وقال : الذين ليس لهم كتاب غلبوا على الذين لهم كتاب ، فشقَّ ذلك على المسلمين ، فلقي أبو بكر رضي الله عنه أبا سفيان ، فقامره على أن الروم ستغلب فارس إلى ثلاث سنين فقامره على ثلاثة أبكار ، ثم أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فقال له : «انْطَلِقْ فَزِدْ فِي الجَعْلِ ، وَزِدْ في السِّنِينَ » . فزايده إلى سبع سنين على سبعة أبكار . فالتقى الروم وفارس ، فغلبتهم الروم ، وظهر عليهم هرقل ، فجاءه جبريل عليه السلام بهزيمة فارس وظهور الرّوم عليهم ، ووافق ذلك يوم بدر وظهور النبيّ صلى الله عليه وسلم على المشركين ، ففرح المؤمنون بظهورهم على المشركين ، وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك .

ويقال : إن أهل الروم كانوا أهل كتاب ، وكان المسلمون يرجون إسلامهم ، وأهل فارس كانوا مجوساً ، فكان المسلمون لا يرجون إسلامهم ، وكانوا يحزنون لغلبة فارس عليهم { الم غُلِبَتِ الروم فِي أَدْنَى الأرض } يعني :أقرب الأرض إلى أرض فارس { وَهُم مّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } روي عن الفراء أنه قال : يعني : من بعد غلبتهم ، ولكن عند الإضافة سقطت الهاء ، كما قال : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَاءَ الزكاة وَكَانُواْ لَنَا عابدين } [ الأنبياء : 73 ] ولم يقل : وإقامة الصلاة .

وقال الزجاج : هذا غلط ، وإنا يجوز ذلك في المعتلّ خاصة . والغلب والغلبة كلاهما مصدر .