أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (147)

{ وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } أي وما كان قولهم مع ثباتهم وقوتهم في الدين وكونهم ربانيين إلا هذا القول ، وهو إضافة الذنوب والإسراف إلى أنفسهم هضما لها وإضافة لما أصابهم إلى سوء أعمالها والاستغفار عنها ، ثم طلب التثبيت في مواطن الحرب والنصر على العدو ليكون عن خضوع وطهارة ، فيكون أقرب إلى الإجابة ، وإنما جعل قولهم خيرا لأن أن قالوا أعرف لدلالته على جهة النسبة وزمان الحدث .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (147)

هذه الآية في ذكر الربيين ، أي هذا كان قولهم ، لا ما قاله بعضكم يا أصحاب محمد ، من قول من قال : نأخذ أماناً من أبي سفيان ومن قول من قال : نرجع إلى ديننا الأول ، ومن قول من فر ، فلا شك أن قوله مناسب لفعله ولو بعض المناسبة ، إلى غير ذلك مما اقتضته تلك الحال من الأقوال ، وقرأ السبعة وجمهور الناس «قولَهم » بالنصب ، ويكون الاسم فيما بعد { إلا } وقرا جماعة من القراء «قولُهم » بالرفع وجعلوا الخبر فيما بعد { إلا } وروى ذلك حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم ، ذكره المهدوي ، واستغفار هؤلاء القوم الممدوحين في هذا الموطن ينحو إلى أنهم رأوا ما نزل من مصائب الدنيا إنما هو بذنوب من البشر وقوله تعالى : { ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } عبارتان عن معنى قريب بعضه من بعض ، جاء ذلك للتأكيد ولتعم مناحي الذنوب ، وكذلك فسر ابن عباس وغيره ، وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر أريد به الكبائر خاصة ، وقولهم : { وثبت أقدامنا } يحتمل أن يجري مع ما قبله من معنى الاستغفار ، فيكون المعنى : اجعلنا دائبين على طاعتك والإيمان بك ، وتثبيت القدم على هذا : استعارة ، ويحتمل أن يكون في معنى ما بعده من قوله : { وانصرنا على القوم الكافرين } فيراد ثبوت القدم حقيقة في مواقف الحرب ، قال ابن فورك : في هذا الدعاء رد على القدرية ، لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعى فيما لا يفعله .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَمَا كَانَ قَوۡلَهُمۡ إِلَّآ أَن قَالُواْ رَبَّنَا ٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسۡرَافَنَا فِيٓ أَمۡرِنَا وَثَبِّتۡ أَقۡدَامَنَا وَٱنصُرۡنَا عَلَى ٱلۡقَوۡمِ ٱلۡكَٰفِرِينَ} (147)

وقوله تعالى : { وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا } الآية عطف على { فما وهنوا } لأنَّه لمّا وصفهم برباطة الجأش ، وثبات القلب ، وصفهم بعد ذلك بما يدلّ على الثبات من أقوال اللِّسان الَّتي تجري عليه عند الاضطراب والجزع ، أي أنّ ما أصابهم لم يخالجهم بسببه تردّد في صدق وعد الله ، ولا بَدَر منهم تذمّر ، بل علموا أنّ ذلك لحكمة يعلمها سبحانه ، أو لعلَّه كان جزاء على تقصير منهم في القيام بواجب نصر دينه ، أو في الوفاء بأمانة التكليف ، فلذلك ابتهلوا إليه عند نزول المصيبة بقولهم : { ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا } خشية أن يكون ما أصابهم جزاء على ما فرط منهم ، ثُمّ سألوه النصر وأسبابه ثانياً فقالوا : { وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين } فلم يصُدّهم ما لحقهم من الهزيمة عن رجاء النَّصر ، وفي « الموطأ » ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " يستجاب لأحدكم ما لم يعجّل يقول : دعوت فلم يُستجب لي " فقصر قولهم في تلك الحالة الَّتي يندر فيها صدور مثل هذا القول ، على قولهم : { ربنا اغفر لنا } إلى آخره ، فصيغة القصر في قوله : { وما كان قولهم إلا أن قالوا } قصر إضافي لردّ اعتقاد من قد يتوهمّ أنَّهم قالوا أقوالاً تنبىء عن الجزع ، أو الهلع ، أو الشكّ في النَّصر ، أو الاستسلام للكفار .

وفي هذا القصر تعريض بالَّذين جزِعوا من ضعفاء المسلمين أو المنافقين فقال قائلهم : لو كلّمنا عبد الله بن أبي يأخذ لنا أماناً من أبي سفيان .

وقدّم خبر ( كان ) على اسمها في قوله : { وما كان قولهم إلا أن قالوا } لأنَّه خبر عن مبتدأ محصور ، لأنّ المقصود حصر أقوالهم حينئذ في مقالة { ربنا اغفر لنا ذنوبنا } فالقصر حقيقي لأنَّه قصر لقولهم الصّادر منهم ، حين حصول ما أصابهم في سبيل الله ، فذلك القيد ملاحظ من المقام ، نظير القصر في قوله تعالى : { إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا } [ النور : 51 ] فهو قصر حقيقي مقيّد بزمان خاص ، تقييداً منطوقاً به ، وهذا أحسن من توجيه تقديم الخبر في الآية بأنّ المصدر المنسبك المؤوّل أعرف من المصدر الصّريح لدلالة المؤوّل على النسبة وزمان الحدث ، بخلاف إضافة المصدر الصّريح ، وذلك جائز في باب ( كان ) في غير صيغ القصر ، وأمَّا في الحصر فمتعيّن تقديم المحصور .

والمراد من الذنوب جميعها ، وعطف عليه بعض الذنوب وهو المعبّر عنه هنا بالإسراف في الأمر ، والإسراف هو الإفراط وتجاوز الحدّ ، فلعلّه أريد به الكبائر من الذنوب كما نقل عن ابن عبَّاس وجماعة ، وعليه فالمراد بقوله : أمرْنا ، أي ديننا وتكليفنا ، فيكون عطف خاص للاهتمام بطلب غفرانه ، وتمحّض المعطوف عليه حينئذ لبقية الذنوب وهي الصّغائر . ويجوز عندي أن يكون المراد بالإسْراف في الأمر التقصير في شأنهم ونظامهم فيما يرجع إلى أهبة القتال ، والاستعداد له ، أو الحذر من العدوّ ، وهذا الظاهر من كلمة أمْر ، بأن يكونوا شكُّوا أن يكون ما أصابهم من هزيمتهم في الحرب مع عدوّهم ناشئاً عن سببين : باطنٍ وظاهر ، فالباطن هو غضب الله عليهم من جهة الذنوب ، والظاهرُ هو تقصيرهم في الاستعداد والحذر ، وهذا أولى من الوجه الأول .