نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{خَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَأٓيَةٗ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ} (44)

ولما قدم أنه لا معجز له سبحانه ، ولا ناصر لمن أخذه ، وصحح ذلك بالمشاهدة في القرون البائدة ، وقربه إلى الأذهان بالمثل المستولي على غاية البيان ، وختم ذلك أنه حجب فهمه عن أكثر خلقه ، دل على ذلك كله بقوله مظهراً لقوته وسائر صفات كماله ، بعد ما حقق أن أولياءهم في أنزل مراتب الضعف { خلق الله } أي الذي لا يداني في عظمة ولا جلال ، ولا جمال ولا كمال { السماوات والأرض بالحق } أي الأمر الذي يطابقه الواقع ، أو بسبب إظهار أن الواقع يطابق إخباره ، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل ، فلا تجد أحداً يفهم عنه حق الفهم مع تساويهم في الإنسانية إلا وهو من أهل السكينة ، والإخبات والطمأنينة ، ولا يعجزه أحد يريد أخذه ، ولا يفلح أحد عصى أنبياءه ، فبانت عزته ، وظهرت حكمته ، فطابق الواقع ما أخبر به ، وأيضاً فالأمثال إنما تكون بالمحسوسات ، وهي إما سماوية أو أرضية ، فإيجاد هذه الموجودات إنما هو لأجل العلم بالله تعالى .

ولما كان المراد بالعالم قد يخفي ، بينه بقوله مشيراً بالتأكيد إلى أن حالهم في عدم الانتفاع بالنظر فيها حال من ينكر أن يكون فيها دلالة : { إن في ذلك } أي الأمر العظيم من تأملهم لمطابقة الواقع لإخباره سبحانه ، فلا يخبر بشيء إلا كان الواقع منهما أو مما فيهما يطابقه سواء بسواء { لآية } أي دلالة مسعدة { للمؤمنين* } أي الذين هم العالمون في الحقيقة ، حداهم علمهم بما في الكونين من المنافع المترتبة على النظام المعروف مع ما في خلقهما أنفسهما مع كبر الأجرام وبديع الإحكام ، على الإيمان بجميع ما أخبر به حتى لم يكن عندهم نوع شك ، وصار لهم صفة لا تنفك .