نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَكُلًّا أَخَذۡنَا بِذَنۢبِهِۦۖ فَمِنۡهُم مَّنۡ أَرۡسَلۡنَا عَلَيۡهِ حَاصِبٗا وَمِنۡهُم مَّنۡ أَخَذَتۡهُ ٱلصَّيۡحَةُ وَمِنۡهُم مَّنۡ خَسَفۡنَا بِهِ ٱلۡأَرۡضَ وَمِنۡهُم مَّنۡ أَغۡرَقۡنَاۚ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظۡلِمَهُمۡ وَلَٰكِن كَانُوٓاْ أَنفُسَهُمۡ يَظۡلِمُونَ} (40)

{ فكلاً } أي فتسبب عن تكذيبهم وعصيانهم أن كلاًّ منهم { أخذنا } أي بما لنا من العظمة { بذنبه } أخذ عقوبة ليعلم أنه لا أحد يعجزنا { فمنهم من أرسلنا عليه } إرسال عذاب يا له من عذاب ! { حاصباً } أي ريحاً ترمى لقوة عصفها وشدة قصفها بالحجارة كعاد وقوم لوط { ومنهم من أخذته } أخذ هلاك وغضب وعذاب ، وعدل عن أسلوب العظمة لئلا يوهم الإسناد في هذه إليه صوتاً ليوقع في مصيبة التشبيه { الصيحة } التي تظهر شدتها الريح الحاملة لها الموافقة لقصدها فترجف لعظمتها الأرض كمدين وثمود { ومنهم من } وأعاد أسلوب العظمة الماضي لسلامة من الإيهام المذكور في الصيحة وللتنبيه على أنه لا يقدر عليه غير الله سبحانه ففيه من الدلالة على عظمته ما يقصر عنه الوصف فقال : { خسفنا به الأرض } بأن غيبناه فيها كقارون وجماعته { ومنهم من أغرقنا } بالغمر في الماء كقوم نوح وفرعون وجنوده ، وعذاب قوم لوط صالحٌ للعد في الإغراق والعد في الخسف ، فتارة نهلك بريح تقذف بالحجارة من السماء كقوم لوط ، أو من الأرض كعاد ، وأخرى بريح تقرع بالصرخة الأسماع فتزلزل القلوب والبقاع ، ومرة نبيد بالغمس في الكثيف وكرة بالغمر في اللطيف - فللّه درّ الناظرين في هذه الأوامر النافذة ، والمتفكرين في هذه الأقضية الماضية ، ليعلموا حقيقة قوله { وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء } - الآية .

ولما كان ذلك ربما جر لأهل التعنت شيئاً مما اعتادوه في عنادهم قال : { وما كان الله } أي الذي لا شيء من الجلال والكمال إلا هو وله { ليظلمهم } أي مريداً ليعاملهم معاملة الظالم الذي يعاقب من لا جرم له ، أو من أجرم ولم يتقدم إليه بالنهي عن إجرامه ليكف فيسلم ، أو يتمادى فيهلك لأنه لا نفع يصل إليه سبحانه من إهلاكهم ، ولا ضرر يلحقه عز شأنه من إبقائهم { ولكن كانوا } أي هم لا غيرهم { أنفسهم } لا غيرها { يظلمون* } بارتكابهم ما أخبرناهم غير مرة أنه يغضبنا وأنا نأخذ من يفعله ، فلم يقبلوا النصح مع عجزهم ، ولا خافوا العقوبة على ضعفهم ، وأما ما عبدوه ورجوا نصره لهم وأملوه فأضعف منهم ، ولكون شيء منه لم يغن عن أحد منهم شيئاً فلم تختل سنة الله في أوليائه وأعدائه في قرن من القرون ولا عصر من العصور ، بل جرت على أقوم نظام ، واتقن إحكام ، وصل بذلك قوله تعالى على وجه الاستنتاج :