نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{فَـَٔامَنُواْ فَمَتَّعۡنَٰهُمۡ إِلَىٰ حِينٖ} (148)

ولما تسبب عن إتيانه إليهم انشراح صدره بعد ما كان حصل له من الضيق الذي أوجب له ما تقدم قال : { فآمنوا } أي تجريداً لأنفسهم من الحظوظ النفسانية ولحوقاً بالصفات الملكية . ولما كان إيمانهم سبب رفع العذاب الذي كان أوجبه لهم كفرهم قال : { فمتعناهم } أي ونحن على ما نحن عليه من العظمة لم ينقص ذلك من عظمتنا شيئاً ولا زاد فيها { إلى حين } أي إلى انقضاء آجالهم التي ضربناها لهم في الأزل .

ذكر قصة يونس عليه السلام من سفر الأنبياء قال مترجمه : نبدأ بمعونة الله وقوته بكتب نبوة يونان بن متى النبي : كانت كلمة الرب على يونان بن متى ، يقول له : قم فانطلق إلى نينوى المدينة العظيمة وناد فيها بأن شرارتكم قد صعدت قدامي ، وقام يونان ليفر إلى ترسيس من قدام الرب ، وهبط إلى يافا ووجد سفينة تريد تدخل إلى ترسيس فأعطى الملاح أجرة ونزلها ليدخل معهم إلى ترسيس هارباً من قدام الرب ، والرب طرح ريحاً عظيمة في البحر ، فكان في البحر موج عظيم ، والسفينة كانت تتمايل لتنكسر وفرق الملاحون وجأر كل إنسان إلى إلهه ، وطرحوا متاع السفينة في البحر ليخففوا عنهم ، بحق هبط يونان إلى أسفل السفينة ونام فدنا منه سيد الملاحين وقال له : لماذا أنت نائم ؟ قم فادع إلهك لعل الله يخلصنا ولا نهلك ، وقال الرجل لصاحبه : تعالوا نقترع ونعلم هذا الشر من قبل من جاء علينا ؟ فاقترعوا فجاءت القرعة على يونان ، فقالوا له : أخبرنا ما هذا الشر ؟ وماذا هو عملك ، ومن أين أنت ، ومن أيّ شعب أنت ، وأيتها أرضك ؟ فقال لهم يونان : أنا عبراني ولله رب السماء أخشى الذي خلق البر والبحر ، ففرق أولئك القوم فرقاً شديداً ، فقالوا له : ماذا صنعت ؟ لأن أولئك الناس علموا أنه من قدام إلهه هرب ، فلما أخبرهم قالوا : ما نصنع بك حتى يسكن عنا البحر لأن البحر هو ذا منطلق يزخر علينا ؟ قال لهم يونان : خذوني فاطرحوني في البحر فيسكن عنكم البحر لأني أعلم أن هذا الموج العظيم من أجلي هاج عليكم ، فجهد أولئك الناس أن يرجعوا إلى الساحل ، فلم يجدوا إلى ذلك سبيلاً ، لأن البحر كان ذاهباً يزخر عليهم ، ودعوا إلى الرب وقالوا : أيها الرب لا يحسب علينا دم زكي ، ولا نهلك بنفس هذا الرجل من أجل أنك أنت الرب ، وكل ما شئت تصنع ، فأخذوا يونان وطرحوه في البحر ، فاستقر البحر من أمواجه ، وفرق أولئك الناس من قدام الرب فرقاً شديداً ، وذبحوا ذبائح للرب ونذروا له النذور ، وهيأ الرب سمكة عظيمة فابتلعت يونان ، وكان يونان في أمعاء السمكة ثلاثة أيام وثلاث ليالي وقال : دعوت الرب في حزني فأجابني ، ومن بطن الجحيم تضرعت إليه ، وسمع صوتي وطرحني في الغوط في قلب البحر ، والأنهار أحاطت بي ، وكل أمواجك واهياجك عليّ جازت ، أنا بحق قلت : إني قد تباعدت من قدام عينيك ، من الآن أترى أعود فأنظر إلى هيكلك المقدس ، وقد أحاطت بي المياه حتى نفسي والأهوال أحاطت بي ، وفي أسفل البحر احتبس رأسي ، وإلى أسافل الجبال هبطت ، والأرض أطبقت أغلاقها في وجهي إلى الدهر ، إذا اغتمت نفسي للرب ذكرت ودخلت صلاتي قدامك إلى هيكلك المقدس ، فكل الذين يحفظون الأنساك البطالة رحمتهم فتركوا ، أنا بحق بصوت الشكر أقرب لك وأذبح ، والذي نذرته أوفيه للرب ! فأمر الرب السمكة فقذفت يونان في اليبس ، وأتى كلام الرب إليه المرة الثانية ، وقال له : قم يا يونان فانطلق إلى نينوى المدينة العظمية وناد فيها بالنداء الذي أقوله لك ، فقام يونان وانطلق إلى نينوى مثل كلمة الرب ، ونينوى كانت مدينة عظيمة للرب مسيرة ثلاثة أيام ، وتبدّأ يونان أن يدخل إلى نينوى مسيرة يوم واحد ونادى وقلال : من الآن وإلى أربعين يوماً نينوى تنقلب ، فآمن أهل نينوى لله وفرضوا الصوم ولبسوا المسوح من عظمائهم حتى صغائرهم ، وانتهت الكلمة إلى ملك نينوى فقام عن كرسيه ونزع تاجه ، واكتسى مسح شعر ، وجلس على الرماد ، ونادى في نينوى وقال الملك وأشرافه : وكل الناس والغدائر والثيران والغنم فلا يذوقون شيئاً من الطعام ولا يرعون ، وماء فلا يشربون ، ولكن فليلبس الناس والغدائر ويدعو الله بالتضرع ، ويرجع كل إنسان عن طريقة السوء ، وعن الاختطاف الذي في يده ، وقالوا : من ذا الذي يعلم أن الله يقبل منا ويترحم علينا ويرد عنا غصبه ورجزه لكيلا نهلك ، ونظر الله إلى أعمالهم أنهم قد تابوا عن طرقهم السوء فرد عنهم غضب رجزه ولم يبدهم ، وحزن يونان حزناً شديداً ، وتكره من ذلك جداً ، وصلى قدام الرب وقال : أيها الرب ! ألم تكن هذه كلمتي ، وأنا بعد في بلادي ولذلك سبقت وفررت إلى ترسيس ، قد عرفت بحق أنك الرحمن الإله الرؤوف ، طويل صبرك وكثيرة نعمتك ، وترد السوء الآن يا رب ! انزع نفسي مني لأن الموت أنفع لي من الحياة ، فقال له : جداً حزنت يا يونان ، وخرج يونان من المدينة واتخذ له ثمة مظلة وجلس تحتها في الظل لينظر ما الذي يعرض للمدينة ، وأمر الله الرب أصل القرع ، ونبت وارتفع على رأس يونان ، فكان ظل على رأسه فتفرج من شدته وفرح فرحاً كثيراً يونان بأصل القرع .

وفي اليوم الآخر أمر الله الرب دودة في مطلع الصبح فضربت أصل القرع وقرضته ، فلما طلعت الشمس أمر الله ريح السموم فيبست أصل القرع ، وحميت الشمس في رأس يونان ، واغتم وسال الموت لنفسه وقال : إنك يا رب تقدر تنزع نفسي مني ، لأني لم أكن أخبر من إياي ، وقال الرب ليونان : جداً حزنت على أصل القرع ، فقال يونان : جدّاً أحزن حتى الموت ، قال له الرب : أنت أشفقت على أصل القرع الذي لم تعن به ولم تربه ، الذي في ليلة نبت ، وفي ليلة يبس ، فكيف لا أشفق أنا على نينوى المدينة العظيمة التي فيها أكثر من اثنتي عشرة ربوة من الناس الذين لا يدرون ما بين يمينهم من شمالهم وكثرة من الغدائر - انتهى . ولعل أصل القرع المذكور هنا كان نبت عليه حين خرج من بطن الحوت ، فلما اتفق له ما ذكر هنا رجع إليه وقد زاد عظمه فبنى تحته عريشاً وجلس تحته ، فكان منه ما كان ، فلا يكون حينئذ ما هنا مخالفاً لما ذكر أهل الأخبار في هذه القصة - والله الموفق .