نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{وَلَقَدۡ ضَرَبۡنَا لِلنَّاسِ فِي هَٰذَا ٱلۡقُرۡءَانِ مِن كُلِّ مَثَلٖ لَّعَلَّهُمۡ يَتَذَكَّرُونَ} (27)

ولما ذكر سبحانه حال الأولين موعظة للعرب ، فكان كأنه قيل صرفاً للقول إلى مظهر العظمة تذكيراً بما في الأناة معها من المنة لأن حالها يقتضي المعاجلة بالأخذ والمبادرة بإحلال السطوة ، ضربنا لكم حالهم مثلا لحالكم لتعتبروا به ، فإن الأمثال يفهم بها المعاني الغائبة ، وتصير كأنها محسوسة مشاهدة ، عطف عليه قوله مؤكداً لإنكارهم أن يكون في القرآن بيان شاف وادعائهم أنه إنما هو شعر وكهانة وسحر : { ولقد ضربنا } على ما لنا من العظمة . ولما كان في سياق المفاضلة بين المتقي وغيره من أوائل السورة حين قال { أمن هو قانت } إلى أن ختم بقوله { أفمن يتقي بوجهه } وأسس ذلك كله على ابتداء الخلق من نفس واحدة ، كانت العناية في هذا السياق بالمخاطبين أكثر ، فقدم قوله : { للناس } أي عامة لأن رسالة رسولكم عامة .

ولما كان المتعنت كثيراً ، عين المحدث عنه بالإشارة التي هي أعرف المعارف ، وجعلها ما يعبر به عن القرب ، إشارة إلى أنه لما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم خلع القلوب وملأها ، فلا حاضر فيها سواه وإن كان المعاند يقول غير ذلك فقوله زور وبهتان وإثم وعدوان ، فقال : { في هذا القرآن } أي الجامع لكل علم . ولما كانت كلماته سبحانه لا تنفد وعجائبه لا تعد ولا تحد ، وكان في سياق التعجيب من توقفهم قال { من كل مثل } أي يكفي ضربه في البيان لإقامة الحجة البالغة ، ثم بين علة الضرب بقوله : { لعلهم يتذكرون * } أي ليكون حالهم بعد ضربه حال من يرجى تذكره بما ضرب له ما يعرفه في الكون في نفسه أو في الآفاق تذكراً واضحاً مكشوفاً - بما أرشد إليه الإظهار ، فيتعظ لما في تلك الامثال المسوقة في أحسن المقال المنسوقة بما يلائمها من الأوضاع والأشكال من البيان وأوضح البرهان .