نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي  
{ٱللَّهُ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلَّيۡلَ لِتَسۡكُنُواْ فِيهِ وَٱلنَّهَارَ مُبۡصِرًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَذُو فَضۡلٍ عَلَى ٱلنَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَشۡكُرُونَ} (61)

ولما ختم ذلك أيضاً بأمر الساعة ، زاد في الدلالة عليه وعلى الفعل بالاختيار والحكمة التي لا يسوغ معها إهمال الخلق من غير حساب ، في دار ثواب وعقاب ، بعد الإتقان لدار العمل بالخطإ والصواب ، فقال معللاً مفتتحاً بالاسم الأعظم الذي لا يتخيل أن المسمى به يهمل المتكبرين عليه مع الإبلاغ في الإحسان إليهم { الله } أي المحيط بصفات الكمال { الذي جعل لكم } لا غيره { الّيل } أي مظلماً { لتسكنوا فيه } راحة ظاهرية بالنوم الذي هو الموت الأصغر ، وراحة حقيقية بالعبادة التي هي الحياة الدائمة { والنهار مبصراً } لتنتشروا فيه باليقظة التي هي إحياء في المعنى ، فالآية من الاحتباك : حذف الظلام أولاً لكونه ليس من النعم المقصودة في أنفسها لما دل عليه من الإبصار الذي هو المقصود من نعمة الضياء المقصود في نفسه ، وحذف الانتشار لأنه بعض ما ينشأ عن نعمة الإبصار لما دل عليه من السكون الذي هو المقصود الأعظم من الليل : للراحة لمن أرادها ، والعبادة لمن اعتمدها واستزادها .

ولما كان بعض الكفرة ينسب الأفعال كما مضى للطبائع ويجعلها بغير اختيار ، قال مستأنفاً أو معللاً مؤكداً : { إن الله } أي ذا الجلال والإكرام { لذو الفضل } أي عظيم جداً باختياره { على الناس } أي كافة باختلاف الليل والنهار وما يحتويان عليه من المنافع . ولما بلغت هذه الآيات من الدلالة على الوحدانية والبعث ونفى أمر الطبائع حداً قل أن يوجد في غيرها ، فكان المخالف مذموماً لذلك غاية الذم ، فكان التعميم بالذم للمخالفين واقعاً في أوفق محاله ، وكان الاسم قد يراد به بعض مدلوله ، وكان المراد هنا التعميم ، أظهر للإفهام إرادة ذلك ، ولم يضمر ليتعلق الحكم بالوصف المفهم للنوس المشير إلى أن صاحبه قاصر عن درجة أول أسنان المؤمنين فيعلم أن هذا النوع مطبوع على ذلك فقال : { ولكن أكثر الناس } أي بما لهم من الاضطراب وعدم الثبات في لزوم الصواب { لا يشكرون * } فينسبون أفعاله سبحانه إلى غيره جهلاً ، أو يعملون بما يسلب عنهم اسم الشكر من الشرك وغيره ، ويجوز أن يكون المراد بالناس أولاً كل من يتأتى منه النوس ، وهو كل من برز من الوجود ، وبهم ثانياً الجن والإنس - والله أعلم .