التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ} (8)

{ طه1 مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى 2 إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى 3 تَنزِيلًا مِّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ والسَّمَاواتِ الْعُلَى 4 الرحمان عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى 5 لَهُ مَا فِي السَّمَاواتِ ومَا فِي الْأَرْضِ ومَا بَيْنَهُمَا ومَا تَحْتَ الثَّرَى 6 وإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وأَخْفَى 7 اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو لَهُ الْأَسْمَاء الْحُسْنَى 8 } [ 1 8 ]

تعددت الأقوال في الحرفين اللذين بدئت بهما السورة كما هو شأن حرفي سورة يس خاصة ، وسائر الحروف التي بدئت بها السور عامة . فقيل : إنهما منحوتان عن " يا هذا " أو عن " طأها " أي الأرض حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يطيل الوقوف وهو يصلي حتى ورمت قدماه . وقيل : إن معناهما يا رجل ؛ لأن " طا " بمعنى رجل في لهجة قبيلة عك أو في النبطية والسريانية . وقيل : إنهما قسم رباني أو من أسماء النبي ، كما قيل : إنهما حروف هجائية مفردة مثل الحروف الأخرى التي بدئت بها السور الأخرى{[1350]} ونحن نرجح أنهما جاءا للتنبيه والاسترعاء لما يأتي بعدهما .

وقد وجه الخطاب في الآيات التي تلي الحرفين للنبي صلى الله عليه وسلم ، فالله لم ينزل عليه القرآن ليشقى ويضنى وإنما أنزله ليكون تذكرة لمن فيه الاستعداد لخشية الله والرغبة في الإنابة إليه . وقد أنزله عليه الله عز وجل الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما ، والذي له الحكم المطلق في الكون ، والمالك لكل شيء والمحيط بكل شيء ظاهرا كان أو خفيّا ، سرّا أو علنا ، والمتفرد في الألوهية الذي له أحسن الأسماء وأكمل الصفات .

تعليق على الآيات الأولى من سورة طه

لقد روى المفسرون أن الآيات نزلت بمناسبة ما كان من إجهاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه في العبادة والصلاة والوقوف وقراءة القرآن حتى ورمت قدماه . وليس لهذه الرواية سند وثيق ، ونحن نتوقف فيها ؛ لأنها لا تنسجم مع روح الآيات بقطع النظر عن حقيقة جهد النبي صلى الله عليه وسلم في عبادة الله واستغراقه فيها مما حكته آية سورة المزّمل الأخيرة .

ورووا كذلك أن المشركين قالوا للنبي : إن القرآن أوحي إليك لشقائك فأنزل الله الآيات لتكذيبهم . والرواية كذلك ليس لها سند وثيق ، ونحن نتوقف فيها ؛ لأن مقتضاها أن يكون المشركون آمنوا بالوحي أو اعترفوا به .

ورووا عن قتادة أحد علماء التابعين أن الآية الأولى بسبيل تقرير كون الله تعالى لم ينزل على رسوله القرآن ليشقي به نفسه وإنما أنزله ليكون رحمة ونورا ودليلا إلى الجنة .

والذي يتبادر لنا من نصها وروحها أنها نزلت بسبيل تخفيف ما كان من النبي صلى الله عليه وسلم من جهد وتعب في دعوة الناس وهدايتهم ، وما يجده من غمّ وحزن وما يلقاه من عناد ومكابرة وسخرية وتعطيل ، فلا ينبغي له أن يحزن ويغتم ويضني نفسه . وليس عليه إلاّ التذكير . ويكفي أن ينتفع بالتذكير والدعوة أصحاب الرغبات الصادقة والنيات الحسنة .

ويلحظ أن هذا المعنى قد اختتمت به السورة السابقة بعد سلسلة من صور مواقف الكفار وأقوالهم . وبدء هذه السورة به قد يدل على صحة ترتيب نزولها بعد تلك السورة كما قد يدل على أن تلك الصور كانت تثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أزمات حزن وغمّ وحسرة اقتضت حكمة التنزيل موالاة تسليته وتطمينه فيها . ومما يلحظ أن هذا المعنى قد تكرر في سورة فاطر التي سبقت سورة مريم في النزول . وهذا يعني أن أزمات حزن النبي صلى الله عليه وسلم وحسرته ظلت تتوالى بسبب توالي مواقف الكفار وأقوالهم المثيرة وتصاممهم عن الدعوة إلى الله وحده .

وهذه الأزمات التي كانت تتوالى على النبي صلى الله عليه وسلم هي من دون ريب نتيجة لإشفاقه على قومه والرأفة بهم والرغبة الشديدة في هدايتهم والاستغراق التام في الواجب العظيم الذي انتدب إليه ، والتفاني فيه وتوطين النفس على كل مكروه في سبيله من أجل خير الناس ونجاتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة . وفي هذا مظهر من مظاهر الأخلاق الكريمة العظيمة التي تهيأ بها محمد صلى الله عليه وسلم للاصطفاء الرباني ، كما فيه القدوة الحسنة التي يجب أن يتخذها المسلمون وبخاصة زعماؤهم وأصحاب الدعوات الإصلاحية فيهم .

ولقد علقنا في سياق تفسير سورة الأعراف على تعبير { استوى على العرش } فلا ضرورة للإعادة . وإنما ننبه إلى أن روح الآيات التي جاء فيها هنا تدل دلالة قوية على صواب ما انتهينا إليه إن شاء الله في تعليقاتنا السابقة ، وهو أن القصد منه تقرير شمول ملك الله لجميع الأكوان وإحاطته بها .


[1350]:انظر تفسير الآيات في الطبري والبغوي وابن كثير والطبرسي والخازن.