التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَمَا بَيۡنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٖ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٖ} (38)

( 1 ) لغوب : تعب .

38

وفي الآيات [ 38 و 39 و 40 و45 ] تطمين للنبي صلى الله عليه وسلم وتسلية له عن تكذيب المكذبين ومواقفهم ؛ حيث تهيب به بأن يتحمل أقوالهم التي يسمعها الله عز وجل وأن يواصل تسبيح الله وعبادته ، وحيث تعلنه أنه لم يرسله ربه لإجبار الناس على الاستجابة ، وأنه ليس عليه إلا أن يذكر القول بالقرآن من يخاف وعيد الله . وقد انطوى في الآيات تقرير مهمة النبي صلى الله عليه وسلم والإشادة بذوي النيات الحسنة والضمائر اليقظة الراغبين في الحق والهدى . فهم الذين من شأنهم أن ينتفعوا بما في القرآن من عظة وهدى ، وقد انطوى في الآية الأخيرة خاصة توكيد مبدأ حرية التدين وترك الناس لاختيارهم وعدم الإكراه في الدين . فعلى النبي أن يدعو ويذكر وليس عليه أن يجبر . وقد تكرر هذا بأساليب متنوعة ، منها : آيات سورة الغاشية هذه ، { فذكر إنما أنت مذكر21 لست عليهم بمصيطر22 } وآية سورة يونس هذه : { ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين99 } وآية سورة البقرة هذه : { لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم256 } .

تعليق على موضوع خلق السماوات والأرض في ستة أيام .

في كتب التفسير أقوال وتعليقات وأحاديث في هذا الموضوع ، الذي تكرر كثيرا وبأساليب متنوعة في القرآن . وفيما يلي إحاطة به في مناسبة وروده هنا لأول مرة نرجو أن يكون فيها الفائدة والصواب إن شاء الله .

ولقد روى المفسرون{[2020]} حديثا عن أبي هريرة جاء فيه : ( أن رسول الله أخذ بيدي فقال : خلق الله التربة يوم السبت ، وخلق الجبال فيها يوم الأحد ، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين ، وخلق المكروه يوم الثلاثاء ، وخلق النور يوم الأربعاء ، وبث فيها الدواب يوم الخميس ، وخلق آدم بعد العصر يوم الجمعة آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل ) . وهذا الحديث رواه مسلم أيضا ، ويعد من الصحاح في اصطلاح علماء الحديث{[2021]} . ومع ذلك فإنه يلحظ منه أن الخلق استغرق سبعة أيام حيث بدأ به يوم السبت ، وانتهى منه مساء الجمعة وليس فيه ذكر للسماوات . وهذا مناقض لنص الآية . وقد لحظ هذا ونبه عليه ابن كثير أيضا ، وقال : إن البخاري تكلم في هذا الحديث . وهناك حديث رواه الطبري عن مجاهد جاء فيه : ( إن الخلق بدأ يوم الأحد وانتهى مساء الجمعة ) .

ولقد ورد في الإصحاحين الأول والثاني من سفر التكوين أول أسفار العهد القديم : أن الدنيا كانت خالية وظلاما ويغمرها الماء ، وكانت روح الله ترفّ على وجهه ، وأن الله خلق في يوم النور وفصل بينه وبين الظلام فسمى النور نهارا والظلام ليلا ، وأنه خلق في اليوم التالي السماء وفي اليوم الثالث الأرض [ الجَلَد ] في وسط الماء وصنوف النبات والشجر ، وفي اليوم الرابع الشمس والقمر والنجوم لتضيء على الأرض ، وفي اليوم الخامس الزحافات والطيور والحيتان ، وفي اليوم السادس البهائم والوحوش ودبابات الأرض ، ثم صنع الإنسان على صورته ذكرا وأنثى ، وفرغ في اليوم السابع من العمل واستراح- سبحانه وتعالى وبارك هذا اليوم وقدسه . ولم يرد في هذا السياق أسماء الأيام الستة . غير أنه ورد في أسفار أخرى : أن الله قدس السبت وحرم فيه العمل{[2022]} . حيث يمكن أن يكون في ذلك قرينة على أن اليهود كانوا يرون أن يوم السبت هو اليوم الذي انتهى الخلق قبله .

ولقد روى ابن كثير عن الإمام أحمد ومجاهد وابن عباس رضي الله عنهم أن اليوم السابع الذي اكتمل الخلق قبله كان يوم السبت ، وأنه سمي بهذا الاسم ؛ لأن معناه القطع على اعتبار أن العمل قد انقطع فيه{[2023]} . ومع ما في هذا من غرابة ، سواء من ناحية القول بانقطاع الله سبحانه عن العمل أو من ناحية كون تسمية [ السبت ] لا يمكن أن تكون إلا متأخرة جدا عن عملية الخلق الأولى ، فإن شيئا من التماثل قائم بين ما ورد في الحديث وما ورد في سفر التكوين ، ثم بين ما روي في صدد السبت وبين ما ورد في سفر التكوين والأسفار الأخرى من تقديس السبت وتحريم العمل فيه . وفي سورة هود هذه الآية : { وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء } [ 7 ] حيث يبدو شيء من التماثل بينها وبين عبارة سفر التكوين ( كان روح الله يرفّ على وجه الماء ) .

ولقد تساءل ابن كثير{[2024]} عما إذ كان يوم الخلق هو يوم عادي أو مثل اليوم الذي ذكر في آية سورة الحج [ 47 ] : { وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون } وفي تفسير ابن عباس رواية الكلبي أنه يوم كألف سنة بأسلوب الجزم ، وبعض المفسرين قالوا : إن اليوم يعني في اللغة زمنا ما ، أو وقتا ما على الإطلاق ، وإن عبارة القرآن قد تعني أن الله خلق الكائنات في أزمان متتالية{[2025]} . ولقد أول السيد رشيد رضا{[2026]} الأيام بالأطوار التكوينية التي مرت بعملية خلق السماوات والأرض وما بينهما وما فيهما من كائنات حية وغير حية . وبعض المفسرين أخذوا عبارة القرآن على ظاهرها واعتبروا الأيام عادية . وبعضهم علل ذلك : بأن الله مع قدرته على خلق جميع ما خلق في الأيام الستة بمجرد تعلق إرادته به فإنه أراد بذلك تعليم عباده التأني والتدرج{[2027]} . ومنهم من جال في كيفيات وماهيات خلق السماوات والأرض وما فيهما خلال الأيام الستة في سياق آيات سورة فصلت هذه بخاصة التي تفسح المجال لذلك الجولان : { قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أندادا ذلك رب العالمين9 وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين10 ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين11 فقضاهن سبع سماوات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم12 } .

ومع تقريرنا واجب الإيمان بكل ما جاء في القرآن ، وأنه من عند ربنا ما فهمنا حكمته ومداه وما لم نفهم فإننا نقول : إن الإشارات القرآنية تلهم كما قلنا قبل أن من مقاصدها التذكير بقدرة الله وعظمته أكثر من قصد تقريره المدة والكيفيات لذاتها ، وفي الآية التي نحن في صددها وفي آيات سورة فصلت التي أوردناها دليل قوي على ذلك .

وقد يكون في فكرة السيد رشيد رضا بتأويل ال { يوم } بالتطور الزمني في تكون مشاهد الكون وصنوف الكائنات الحية وغير الحية شيء كثير من الوجاهة بالنسبة لموضوعية الآيات ، غير أن هذا لم يكن معروفا على الوجه الذي عرف به في القرون الحديثة في زمن النبي عليه السلام ، ولا نريد أن نسلم بأن القرآن احتوى إشارات إلى أمور فنية وعلمية لم تكن معروفة ولا مدركة على حقيقتها من قبل النبي عليه السلام وسامعي القرآن ، ونرى هذا مما لا تتحمله أهداف القرآن ولا عباراته من جهة ، ومما فيه إخراج له من نطاقه الإرشادي إلى مجال البحث والنقد من جهة أخرى .

ومن الممكن أن نضيف إلى ما قلناه : إن مشاهد الكون ونواميسه في القرآن من قسم الوسائل التدعيمية لمبادئ الدعوة ، وبخاصة لحقيقة عظمة الله ووحدته وقدرته الشاملة ، وأن الأولى أن يوقف عند ما اقتضت حكمة التنزيل إيحاءه فيها بالأساليب التي اقتضتها هذه الحكمة بدون تزيد ولا تخمين . ولقد قلنا أكثر من مرة في مناسبات سابقة : إن هذه الوسائل تكون أقوى على تحقيق غايتها ، حين يكون موضوعها مما يعرفه السامعون وخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، وكان روح الله قبل ذلك يرفّ على وجه الماء مما ورد كما قلنا في سفر التكوين الذي كان من جملة الأسفار المتداولة بين أيدي الكتابين في زمن النبي صلى الله عليه وسلم . ومما لا ريب فيه أن سامعي القرآن العرب كانوا أو كان كثير منهم يعرفون ذلك عن طريق الكتابيين . فالمتبادر أن حكمة الله اقتضت أن يذكر ذلك بصورة موجزة لما فيه من تماثل مع ما يعرفه السامعون لتدعيم المبدأ القرآني المحكم ، وهو وجود واجب الوجود وشمول قدرته وربوبيته وكونه الذي خلق الكون . والذي يسير بتدبيره ونواميسه التي أودعها فيه ، وإننا لنرجو أن يكون في هذا الصواب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .

/خ45


[2020]:- انظر الآية [54] من سورة الأعراف في تفسير ابن كثير.
[2021]:- انظر التاج جـ4 ص 33-34.
[2022]:- انظر الإصحاح 20 من سفر الخروج مثلا. وقد تكررت ذلك كثيرا في الأسفار الأخرى.
[2023]:- انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير.
[2024]:- انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير ابن كثير.
[2025]:- انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير محاسن التأويل للقاسمي.
[2026]:انظر تفسير آية الأعراف السابق ذكرها في تفسير المنار جـ 7.
[2027]:- انظر تفسير آية الأعراف المذكورة سابقا في تفسير البغوي ومجمع البيان للطبرسي مثلا.