التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَٰتِ لَا نُكَلِّفُ نَفۡسًا إِلَّا وُسۡعَهَآ أُوْلَـٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلۡجَنَّةِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} (42)

42

تعليق على مدى جملة

{ لا نكلف نفسا إلا وسعها }

وهذه الجملة وإن كانت في مقامها هي بسبيل تقرير كون الله تعالى لا يكلف الذين آمنوا وعملوا الصالحات إلا ما في وسعهم من ذلك ، فإنها في إطلاقها تتضمن مبدأ من أمهات المبادئ القرآنية الذي تكرر تقريره بأساليب متنوعة وهو أن الله سبحانه وتعالى لا يكلف الناس إلا وسعهم . وهذا المعنى يتناول حدين أو معنيين :

الأول : أن ما يكلفه الله الناس هو ما يعرف أنه في نطاق قدرتهم ووسعهم أن يفعلوه .

والثاني : أن الله لا يطلب من الناس أن يتجشموا ما لا طاقة لهم به في سبيل القيام بما يكلفون به .

والوسع يتناول فيما يتناول عدم التعارض مع القابليات والإمكانيات وعدم التعرض للأخطار والأضرار . فالمسلمون حسب هذا المبدأ ليسوا مكلفين بما ليس في إمكانهم وقابليتهم الجسدية والنفسية والمالية ولا بما يكون فيه تعريض حياتهم للخطر والتهلكة والحرمان سواء أكان ذلك بسبيل الواجبات والتكاليف التعبدية أم غير التعبدية . وإنما يطلب ذلك منهم في نطاق الطاقة وحدود الإمكان والمعقول .

وهذا المبدأ يتسق مع طبيعة الأشياء ووقائع الأمور . ولعله من أعظم المبادئ التي ترشح المبادئ القرآنية للخلود والتطبيق في كل زمن ومكان . وقد تكرر تقريره كما قلنا بأساليب متنوعة مما ينطوي فيه حكمة التنزيل ؛ ومن الأمثلة على ذلك { إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم }{[954]} [ البقرة : 173 ] و{ لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا ورحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] . و{ ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج } [ المائدة : 6 ] و{ لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها . . } [ الأنعام : 152 ] و{ فاتقوا الله ما استطعتم . . . }[ التغابن : 16 ] و{ لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها . . } [ الطلاق : 7 ] ولقد روي في سياق آية البقرة [ 286 ] التي أوردناها آنفا حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة قال : ( لما نزلت { لله ما في السماوات وما في الأرض وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير } [ البقرة : 284 ] اشتد ذلك على أصحاب النبي ، فأتوه وبركوا على الركب وقالوا : أي رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها . فقال رسول الله : أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا . بل قولوا : سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ، قالها مرتين . فلما اقترأها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها { آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير } [ البقرة : 285 ] فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا } [ البقرة : 286 ] قال نعم { ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا } [ البقرة : 286 ] قال : نعم { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } [ البقرة : 286 ] قال نعم : { واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] قال : نعم ){[955]} . حيث يفيد الحديث أن الله تعالى علم المؤمنين هذا الدعاء وآذنهم أنه قد استجاب دعاءهم . فقوي المبدأ القرآني قوة وإحكاما .

ولقد رويت أحاديث نبوية صحيحة متساوقة في تلقينها مع التلقين القرآني الذي تضمنته الآيات التي أوردناها وأمثالها . من ذلك حديث رواه مسلم والترمذي وأبو دود والنسائي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان ){[956]} . وحديث رواه مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يتكلموا أو يعملوا به ){[957]} . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم فإنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم ){[958]} . وحديث رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن عائشة قالت : ( إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها امرأة فقال : من هذه ؟ قالت : فلانة تذكر من صلاتها . قال : مه . عليكم بما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ، وكان أحب الدين إلى الله ما داوم عليه صاحبه ){[959]} . وحديث رواه الشيخان عن عبد الله بن عمرو قال : ( قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ألم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار ؟ قلت : إني أفعل ذلك . قال : فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك ، وإن لنفسك حق ولأهلك حق فصم وأفطر وثم ونم ){[960]} . وحديث رواه البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه ، فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة ){[961]} . وحديث رواه الشيخان والترمذي عن عائشة قالت : ( إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أحب إلى الله ؟ قال : أدومه وإن قل ){[962]} . وحديث رواه الخمسة عن ابن عمر قال : ( كنا نبايع رسول الله على السمع والطاعة ويلقننا فيما استطعتم ){[963]} . وحديث رواه النسائي والترمذي عن أميمة بنت رقيقة قالت : ( كنا نبايع رسول الله على أن لا نشرك بالله شيئا ولا نسرق ولا نزني ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ولا نعصيك في معروف . فقال : فيما استطعتن واطقتن فقلنا : الله ورسوله أرحم بنا ){[964]} . وحديث رواه ابن ماجه عن ابن عباس قال : ( قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله قد وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه ){[965]} .


[954]:- مثل هذه الآية أو قريبا منها جاء في سورة الأنعام والمائدة والنحل.
[955]:التاج جـ 4 ص 62-64.
[956]:-التاج جـ1 ص 24.
[957]:- المصدر نفسه ص 28 و 37 و 42.
[958]:- المصدر نفسه.
[959]:- المصدر نفسه.
[960]:- المصدر نفسه، نفهت: أي سئمت وكلت. اسم إن ضمير الشأن وجملة لنفسك حق خبرها.
[961]:- المصدر نفسه.
[962]:- المصدر السابق نفسه.
[963]:- التاج جـ3 ص 38 و 39.
[964]:- المصدر نفسه.
[965]:- التاج جـ1 ص 29.