التفسير الحديث لدروزة - دروزة  
{بَرَآءَةٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦٓ إِلَى ٱلَّذِينَ عَٰهَدتُّم مِّنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (1)

مقدمة السورة:

سورة التوبة :

في هذه السورة فصول عديدة ومتنوعة إلا أنها يجمعها طابع عام واحد هو الحث على الجهاد والحملة على المنافقين والكافرين والمشركين . والثناء على المؤمنين المخلصين .

وتنطوي فصولها على :

( 1 ) التبرؤ من المشركين الناقضين للعهد والحث على قتالهم إلى أن يتوبوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، مع احترام عهد المعاهدين الأوفياء لعهودهم .

( 2 ) والتنبيه على أن المشركين نجس لا يجوز أن يدخلوا منطقة البيت الحرام بعد أن صار في حوزة الإسلام ، ولا أن يتولوا مسجدا ويعمروه أو يعمروا المسجد الحرام ، وليس لهم في ذلك حق وميزة .

( 3 ) وحظر تولي الآباء والأقارب الكفار ومناصرتهم والتحالف معهم وإيجاب إيثار الله ورسوله والجهاد في سبيله عليهم وعلى جميع أعراض الدنيا إذا تعارض هذا مع ذاك .

( 4 ) وحث على قتال أهل الكتاب الذين لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق حتى يعطوا الجزية ويخضعوا لسلطان الإسلام فيكون لهم ذلك مانعا .

( 5 ) وإقرار حرمة الأشهر الحرم الأربعة بأعيانها وتحريم النسيء والتلاعب في أوقاتها بسبيل التقديم والتأخير فيها ، وإخراج بعضها من الحرمة وجعل غيرها بديلا عنها .

( 6 ) وحث واستنفار إلى غزوة أجمعت الروايات على أنها غزوة تبوك وتنديد بالمتثاقلين والمتخلفين عنها بأعذار كاذبة ووصمهم بالنفاق .

( 7 ) وصور من مواقف المنافقين وأقوالهم ومكائدهم وسخريتهم وتثبيطهم وإخلافهم لوعودهم وعهودهم وتنديد باعتذاراتهم وأيمانهم الكاذبة وإنذارات قارعة لهم وإيجاب الوقوف منهم موقف الشدة والحزم .

( 8 ) وبيان لطبيعة الأعراب وشدة كفر الكافرين ونفاق المنافقين منهم بسببها مع التنويه بطبقة أخلصت في إيمانها وإسلامها وأعمالها منهم .

( 9 ) وتصنيف المنتسبين إلى الإسلام إلى مخلصين سابقين وتابعيهم بإحسان ، ومنافقين متسترين ، وخالطي عمل صالح بعمل سيء ، وأناس غير معروفة حقيقتهم على اليقين موكولين إلى الله ، ومنافقين مجاهرين بالضرر والفساد .

( 10 ) وحظر الاستغفار للمشركين والصلاة عليهم .

( 11 ) ومشاهد عن إخلاص بعض فقراء المسلمين إزاء الدعوة إلى الجهاد وشدة ندم بعض المخلصين المتخلفين وتوبة الله عليهم .

( 12 ) ومشاهد عن مواقف المنافقين عند نزول القرآن .

( 13 ) وتشريع في صدد التناوب في الجهاد .

( 14 ) وختام وصفي رائع لأخلاق النبي صلى الله عليه وآله وسلم وشدة حرصه على المسلمين ورأفته ورحمته بهم .

وأكثر فصول السورة معقودة على غزوة تبوك وظروفها وأحداثها . وهناك رواية غريبة تذكر أنها نزلت دفعة واحدة ( 1 ){[1]} . في حين أن مضامين فصولها تلهم بكل قوة أن منها ما نزل قبل غزوة تبوك بمدة ما . ومنها ما نزل أثناء هذه الغزوة ، ومنها ما نزل بعد العودة من هذه الغزوة ؛ حيث يسوغ القول : إن الرواية المذكورة غير معقولة وغير صحيحة ، وإن فصول السورة قد رتبت في وقت متأخر من عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن تم نزول الفصول التي اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويها . والمصحف الذي اعتمدناه يروي أن آيتيها الأخيرتين مكيتان . وهذه الرواية مروية في تفسير المنار وفي الإتقان للسيوطي ( 1 ){[2]}عن ابن الفرس . وصاحب تفسير المنار يسوغ الرواية ويقول : إن معنى الآيتين لا يظهر إلا في دعوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإسلام في مكة في أول زمن البعثة ، وهناك رواية أوردها ابن كثير تفيد أن الآيتين كانتا منسيتين فألحقتا بآخر السورة ارتجالا . وكانت هذه الرواية مما قوى تسويغ صاحب المنار . هذا في حين أن هناك روايات تذكر أن الآيتين هما آخر القرآن نزولا . وقد رجحنا أنهما جاءتا معقبتين على الآيات السابقة لهما استلهاما من فحواهما . وسنزيد الأمر بيانا في سياق تفسير الآيات .

والمتواتر اليقيني أن مصحف عثمان هو أصل المصاحف لم يفصل بين سورتي الأنفال وهذه السورة بالبسملة أسوة بسائر السور . وقد روى الترمذي ( 2 ){[3]} حديثا عن ابن عباس جاء فيه : ( قلت لعثمان رضي الله عنه : ما حملكم أن عمدتم إلى الأنفال وهي في المثاني وإلى براءة وهي من المئين ( 3 ){[4]} فقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموها في السبع الطوال . فقال عثمان : كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي عليه الزمان وهو تنزل عليه السور ذوات العدد ، فكان إذا نزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ، وكانت الأنفال من أوائل ما أنزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر القرآن ، وكانت قصتها شبيهة بقصتها ( 4 ){[5]} فظننت أنها منها فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يبين لنا أنها منها ؛ فلذلك قرنت بينهما ولم أكتب بينهما بسم الله الرحمن الرحيم فوضعتها في السبعة الطوال ) . وهناك روايات أخرى في صدد ذلك . منها رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه جوابا على سؤال سأله ابنه محمد مفادها : أن هذه السورة نزلت بالسيف ، وأن البسملة أمان . ورواية عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر في كل سورة بكتابة بسم الله الرحمن الرحيم ، ولم يأمر بذلك في سورة التوبة وكانت نزلت في آخر القرآن فضمت إلى الأنفال لشبهها بها . ورواية – جاءت بصيغة قيل – تذكر أن الصحابة اختلفوا فيما إذا كانت سورتا الأنفال وبراءة واحدة أم سورتين ؟ ولم يتغلب رأي فتركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول : إنهما سورتان . ولم يكتبوا البسملة تنبيها على قول من يقول : إنهما سورة واحدة . وهناك رواية تذكر أن السورتين كانتا تسميان القرينتين لهذا السبب ( 1 ){[6]} .

وباستثناء حديث الترمذي عن ابن عباس ليس شيء من هذه الروايات واردا في الصحاح . والمتبادر أن رواية عدم وضع البسملة بسبب كونها نزلت في القتال غير سائغة ؛ لأن هناك سورا أخرى احتوت الأمر بالقتال . وتبقى الروايات الأخرى وهي محتملة . وقد يكون فيها إزالة لإشكال ورود سورة الأنفال التي تقل آياتها عن المائة بين السور الطوال في حين أن ترتيب سور القرآن سار على وضع الأطول فالأطول إجمالا . ولم يؤثر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أمر بوضع البسملة بينهما . وآياتهما معا تجعل سلكهما في سلك السور الطوال سائغا .

وهذه الروايات مع حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي تفيدنا مسألتين مهمتين في صدد تأليف وترتيب سور القرآن والمصحف والآيات ، الأولى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر بأن تكون كل سورة في قراطيس لحدتها مفتوحة للزيادة عليها . وكان وضع الآيات في السور بأمره . والثانية أن ترتيب السور واحدة وراء أخرى كما جاء في المصحف هو بأمره . ونرجح أن المسألة الأولى كانت بنوع خاص بالنسبة للسور المدنية . وأن السور المكية كان قد تم ترتيبها إما في مكة وإما بعد الهجرة بقليل . وكل ما هنالك أن بعض آيات مدنية أضيفت إلى بعض هذه السور مثل الآية الأخيرة من كل من سورتي المزمل والشعراء والآيات ( 163 – 170 ) من سورة الأعراف للتناسب الموضوعي . ومن المحتمل كثيرا أن تكون هذه الآيات نزلت في أوائل الهجرة . والله أعلم .

والمصحف الذي اعتمدناه يروي ترتيب هذه السورة قبل سورة النصر التي يجعلها آخر السور المدنية نزولا . وبعض روايات الترتيب يجعلها بعد سورة النصر . وبعضها يجعلها ثانية عشرة سورة مدنية نزولا وبعضها سادسة عشرة بل وبعضها سادسة ( 1 ){[7]} ، ومضامينها تلهم أن الروايات الثلاث الأخيرة لا يمكن أن تكون صحيحة . وقد أخذنا برواية المصحف الذي اعتمدناه لأن فحوى وروح سورة النصر يسوغان صحة رواية هذا المصحف بكونها آخر السور المدنية نزولا كما أن هناك أحاديث تؤيد ذلك على ما سوف نورده في سياقها .

وللسورة أسماء عديدة . المشهور منها اثنان وهما ( التوبة ) و( براءة ) . وهما مقتبسان من ألفاظ فيها كما هو شأن معظم السور . والباقي أطلق عليها بسبب ما فيها من دلالات فهي الفاضحة لأنها فضحت المنافقين ، وهي المبعثرة ؛ لأنها بعثرة أسرارهم ، وهي المقشقشة ؛ لأنها تقشقش أن تبرئ المسلمين من الكفر والنفاق ، وهي المدمدمة أي المهلكة ، وهي الحافرة ؛ لأنها حفرت قلوب المنافقين وكشفت ما يسترونه ، وهي المثيرة لأنها أثارت مخازيهم ، وهي العذاب ؛ لأنها نزلت بعذاب الكفار . وهذه الأسماء التي بلغت العشيرة معزوة إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتابعيهم ( 2 ){[8]} .

{ بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ( 1 ) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ ( 2 ) } ( 1 – 2 ) .

تعليق على الآيتين الأوليين من السورة ومتناولهما

عبارة الآيتين واضحة . والخطاب في الآية الأولى موجه إلى المسلمين يخبرون به بأن الله ورسوله يعلنان براءتهما من الذين عاهدوهم من المشركين وتنصلهما من عهدهم . وفي الثانية موجه إلى المشركين يؤذون به بأن لهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر بأمان . مع إنذارهم بأنهم غير معجزين لله وغير فالتين منه ، وأنه مخزي الكافرين في أي حال .

وتوجيه الخطاب في الآية الأولى إلى المسلمين قد يبدو غريبا لأول وهلة ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي كان يعقد العهود مع غير المسلمين . والمتبادر أن حكمة التنزيل لما اقتضت أن يقرن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع الله عز وجل في إعلان البراءة والتنصل من هذه العهود جاءت العبارة القرآنية على النحو الذي جاءت عليه ؛ لأن العهود وإن كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي يعقدها فإنها كانت أيضا بين المسلمين والمشركين .

ولقد قال الطبري : إن أهل التأويل – وقد ذكر في سياق كلامه ابن عباس والضحاك وقتادة والسدي ومحمد بن كعب القرظي – اختلفوا في من برئ الله ورسوله إليه من العهد فقال بعضهم : هم صنفان . أحدهما : كانت مدة عهده أقل من أربعة أشهر فأمهل أربعة أشهر ؛ لأن الآيات نزلت في شوال الذي يعقبه الأشهر الحرم الثلاثة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم . وثانيهما : كانت مدته أكثر من أربعة أشهر فقصرت على أربعة أشهر ليرتاء لنفسه ويعلم أنه على حرب إن لم يسلم . وقال بعضهم : إن الآيات براءة من العهود مع المشركين عامة ؛ لأن الله تعالى علم سرائرهم وأنهم كانوا يخفون غير ما يظهرون من نية الغدر والعداء .

وهذه الأقوال تتعارض كما هو المتبادر مع استثنائين وردا في آيتين تردان بعد قليل . أولهما : لمن عاهدهم المسلمون ووفوا بعهودهم . وقد أمر المسلمون بإتمام عهدهم إلى مدتهم التي كانت على الأرجح أكثر من أربعة أشهر ؛ لأن حكمة الأمر إنما تكون في ذلك . وثانيهما لمن عاهدهم المسلمون عند المسجد الحرام واستقاموا على عهدهم . وقد أمر المسلمون بالاستقامة لهم ما استقاموا لهم دون تحديد وتوقيت . وهذا فضلا عن تعارضها مع تكرر إيجاب الوفاء بالعهود والعقود على المسلمين في سور عديدة مكية ومدنية .

ولقد لاحظ الطبري هذا . وعقب على الأقوال التي رواها قائلا : إن أولى الأقوال بالصواب أن الأجل الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته دون الذين لم ينقضوا ؛ لأن الله أمر بإتمام العهد معهم وبالاستقامة لهم ما استقاموا عليه .

وفي تفسير البغوي رواية عن ابن إسحاق ومجاهد تذكر أن الآيات نزلت قبل تبوك ، وأنها نزلت في أهل مكة . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عاهد قريشا عام الحديبية على وضع الحرب عشر سنين ودخلت خزاعة في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وبنو بكر في عهد قريش ، ثم عدا بنو بكر على خزاعة فنالوا منها ، وأعانتهم قريش بالسلاح وحينئذ خرج عمرو بن سالم الخزاعي إلى المدينة ، وناشد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم النصر فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لا نصرت إن أنصركم وتجهز إلى مكة .

والرواية تقتضي أن تكون الآيات قد نزلت قبل فتح مكة ، في حين أن الآية التالية لها المنسجمة معها كل الانسجام تدل على أن الآيات نزلت بعد فتح مكة .

ولقد روى المفسر إلى روايته المذكورة رواية أخرى . جاء فيها : ( إن المفسرين – ويقصد أهل التفسير والتأويل في الصدر الأول – قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما خرج إلى تبوك أرجف المنافقون وأخذ المشركون ينقضون عهودهم فأنزل الله الآيات بالنسبة لهؤلاء مع إمهالهم أربعة أشهر إن كانت مدة عهدهم أقل أو قصرها على أربعة أشهر كانت أكثر ) . وهذا متساوق مع ما ذهب إليه الطبري وصوبه ، وهو أن الآيات نزلت في شأن الذين بدرت منهم بوادر نقض من المشركين . والرواية تفيد أن ذلك كان بعد فتح مكة ؛ لأن سفرة تبوك كانت بعد الفتح . وهو الحق والصواب اللذان يزول بهما وهم التعارض والتناقض .

وليس في كتب التفسير الأخرى شيء مهم آخر في صورة الآيتين . فاكتفينا بما أورده الطبري والبغوي ؛ لأنهما من أقدم من وصل إلينا كتبهم ومعظم من أتى بعدهم من المفسرين نقلوا عنهم .


[1]:التاج جـ 5 ص 382.
[2]:كتب السيد رشيد رضا في تفسيره في صدد هذه النقطة وفي سياق آية مماثلة للآية هنا وهي الآية [128] من سورة الأنعام أكثر من خمس وعشرين صفحة استعرض فيها أقوال من يقول بالتأييد ومن يقول بخلافه وأورد حججهم النقلية والعقلية وانتهى إلى إناطة الأمر إلى حكمة الله ورحمته وعدله.
[3]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[4]:التاج جـ 5 ص 173 و 174.
[5]:انظر تفسير الآيات في كشاف الزمخشري
[6]:تفسير الخازن
[7]:التاج ج 2 ص 300 والمقصود أن الحمو هو غير المحرم من أقارب الزوج.
[8]:التاج ج 2 ص 301