قوله تعالى : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } : في هذه اللام وجهان :
أحدهما : أنها زائدةٌ مؤكدةٌ ، كهي في قوله تعالى : { رَدِفَ لَكُم }[ النمل : 72 ] أي : رَدِفَكم ، وقول الآخر :
فَلَمَّا أَنْ تواقَفْنَا قليلاً *** أَنَخْنا للكلاكِلِ فارتَمَيْنَا
ما كنتُ أخدَعُ للخليلِ بخُلَّةٍ *** حتى يكونَ لِيَ الخليلُ خَدُوعا
أي : أَنَخْنَا الكلاكل ، وأَخْدَعُ الخليلَ ، ومثلُه :
يَذُمُّونَ للدنيا وهم يَرْضِعُونَها *** أَفاويقَ حتى ما يَدِرُّ لها ثَعْلُ
يريد : يَذُمُّون الدنيا ، ويروي " بالدنيا " بالباء ، وأظن البيت : " يَذُمُّونَ لي الدنيا " فاشتَبَه اللفظُ على السامعِ ، وكذا رأيتُه في بعضِ التفاسيرِ ، وهذا ليس بقويٍ .
والثاني : أنَّ " أَمِنَ " ضُمِّنَ معنى أَقَرَّ واعترَفَ ، فَعُدِّي باللام أي : ولا تُقِرُّوا ولا تَعْتَرِفوا إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم ، ونحوُه : { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى }
[ يونس : 83 ] { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا } [ يوسف : 17 ] . وقال أبو علي : " وقد تعدَّى " آمَن " باللام في قولِهِ : { فَمَآ آمَنَ لِمُوسَى } { آمَنتُمْ لَهُ } [ طه : 71 ]{ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] فذَكَرَ أنه يتعدَّى بها من غيرِ تضمين . والصوابُ ما قَدَّمْتُه من التضمينِ ، وقد حَقَقْتُ هذا أولَ البقرة .
وهذا اسثناءٌ مفرغ ، وقال أبو البقاء : " إلاَّ لِمَنْ تَبع " فيه وجهان :
أحدُهما : أنه استثناءٌ مِمَّا قبلَه ، والتقديرُ : ولا تُقِرُّوا إلا لِمَنْ تَبع " فعلى هذا اللامُ غيرُ زائدةٍ ، ويجوزُ أَنْ تكونَ زائدةً ، ويكون محمولاً على المعنى أي : اجْحَدُوا كلَّ أحدٍ مَنْ تَبعَ ،
والثاني : أنَّ النيةَ به التأخيرُ والتقديرُ : ولا تُصَدِّقوا أنْ يؤتَى أحَدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلا مَنْ تَبع دينَكم ، فاللامُ على هذا زائدَةٌ ، و " مَنْ " في موضِعِ نصبٍ على الاستثناء من " أحد " .
وقال الفارسي : " الإِيمانُ لا يتعدَّى إلى مفعولين فلا يتعلَّقُ أيضاً بجارَّيْن ، وقد تُعلّق بالجارّ المحذوفِ مِنْ قولِهِ : { أَن يُؤْتَى } فلا يتعلَّقُ باللامِ في قوله : { لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إلا أَنْ يُحمل الإِيمانُ على معناه ، فيتعدَّى إلى مفعولين ، ويكونُ المعنى : " ولا تُقِرُّوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم إلا لمَنْ تَبعَ دينكم " كما تقولُ : أَقْرَرَتُ لزيدٍ بألف ، فتكونُ اللامُ متعلقةً بالمعنى ، ولا تكونُ زائدةً على حدِّ { رَدِفَ لَكُم } [ النمل : 72 ] { إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } [ يوسف : 43 ] " . قلت : فهذا تصريحٌ من أبي علي بأنه ضُمِّنَ آمَنَ معنى أَقَرَّ .
قوله : { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ } اعلم أنَّ في هذه الآية كلاماً كثيراً لا بد من إيرادِهِ عن قائليهِ ليتضحَ ذلك ، فأقولُ وباللهِ العون :
اختلفَ الناس في هذه الآيةِ على [ وجوهٍ : ] أحدُها : أنْ يكونَ { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ } متعلِّقاً بقوله : { وَلاَ تُؤْمِنُواْ } على حذف حرفِ الجر ، والأصلُ :
" ولاتؤمنوا بأَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لِمَنْ تَبعَ دينَكم " فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجَرِّ جرى الخلاف المشهورُ بين الخليل وسيبويه في محل " أَنْ " ، ويكونُ قولُهُ : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } جملةً اعتراضيةً ، قال الزمخشري في تقريرِ هذا الوجهِ وبه بدأ : " ولا تُؤْمِنُوا متعلِّقٌ بقولِهِ : " أَنْ يُؤْتَى أحد " ، وما بينهما اعتراضٌ أي : " ولا تُظْهِرُوا إيمانكم بأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دونَ غيرِهم ، أرادوا : أسِرُّوا تصديقَكم بأنَّ المسلمين قد أُوتوا مثلَ ما أوتيتم ولا تُفْشُوه إلا لأشياعِكم وحدَهم دونَ المسلمين ، لئلا يَزيدَهم ثباتاً ، ودونَ المشركين لئلا يَدْعُوهم إلى الإِسلام ، أو يُحاجُّوكم عطفٌ على " أَنْ يُؤْتَى " .
والضميرُ في " يُحاجُّوكم " لأحد لأنه في معنى الجميع ، بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم ، فإن المسلمين يُحاجُّوكم عند ربكم بالحق ، ويغالِبونُكم عند الله . فإنْ قلت : ما معنى الاعتراض ؟ قلت : معناه أن الهدى هدى الله ، مَنْ شاءَ أَنْ يلطف به حتى يُسْلِمَ أو يَزيدَ ثباتاً كان ذلك ، ولم ينفع كَيْدُكم وحِيَلُكُم وزيُّكُم تصديقكم عن المسلمين والكافرين ، وكذلك قوله : { قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } يريد الهدايةَ والتوفيق " . قلت : هذا كلامٌ حسن لولا ما يريد بباطنه ، وعلى هذا يكونُ قولُه { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ } مستثنًى من شيءٍ محذوف ، تقديره : ولا تُؤمِنُوا بأَنْ يُؤْتَى أحد مثلَ ما أوتيتم لأحدٍ من الناسِ إلا لأشياعكم دونَ غيرهم ، وتكونَ هذه الجملةُ أعني قولَه : ولا تُؤْمِنُوا إلى آخرها ، من كلامِ الطائفةِ المتقدِّمة ، أي : وقالَتْ طائفةٌ كذا ، وقالَتْ أيضاً : ولا تُؤمِنُوا ، وتكونُ الجملةُ من قولِهِ : { قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ } مِنْ كلام اللهِ لا غير .
الثاني : أنَّ اللامَ زائدةٌ في " لِمَنْ تَبعَ " وهو مستثنى من أحد المتأخر ، والتقديرُ : ولا تُصَدِّقوا أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم ، فَمَنْ تَبعَ منصوبٌ على الاستثناء من " أحد " ، وعلى هذا الوجه جَوَّز أبو البقاء في محل " أن يؤتى " ثلاثة أوجهٍ : الأول والثاني مذهبُ الخليل وسيبويه وقد تقدَّما . الثالث : النصبُ على المفعولِ مِنْ أجله تقديرُهُ : مخافَةَ أَنْ يُؤْتَى .
وهذا الوجهُ الثاني لا يَصِحُّ من جهةِ المعنى ولا مِنْ جهةِ الصناعة : أمَّا المعنى فواضحٌ ، وأَمَّا الصناعةُ فلأن فيه تقديمَ المستثنى على المستثنى منه وعلى عامله ، وفيه أيضاً تقديمُ ما في صلةِ " أَنْ " عليها ، وهو غيرُ جائز .
الثالث : أَنْ يكونَ " أَنْ يُؤْتَى " مجروراً بحرفِ العلة وهو اللام ، والمُعَلَّلُ محذوفٌ تقديرُه : لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه ، لا لشيء آخرَ ، وعلى هذا يكونُ كلامُ الطائفةِ قد تَمَّ عند قوله { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ، ولنوضَّحْ هذا الوجه بما قاله الزمخشري . قال رحمه الله : " أو تمَّ الكلامُ عند قوله : { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } ، على معنى : ولا تُؤمِنُوا هذا الإِيمانَ الظاهرَ وهو إيمانهم وجهَ النهار إلا لِمَنْ تَبعَ دينكم ، إلا لِمَنْ كانوا تابِعين لديِنكم مِمَّنْ أسلموا منكم ، لأنَّ رجوعَهم كانَ أَرْجَى عندهم مِنْ رُجُوعِ مَنْ سِواهم ، ولأنَّ إسلامَهم كان أغيظَ لهم ، وقوله : { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ } معناه : لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرْتموه لا لشيء آخر ، يَعْني أن ما بكم من الحسد والبغي أَنْ يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من فضل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم ، والدليلُ عليه قراءة ابن كثير : " أَأَن يُؤْتَى أحد " بزيادةِ همزةِ الاستفهام للتقرير والتوبيخ بمعنى : ألأنْ يُؤْتَى أحدٌ ؟ فإن قلت : فما معنى قوله " أو يُحاجُّوكم " على هذا ؟ قلت : معناه دَبَّرْتُم ما دَبَّرْتُم لأنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلُ ما أُوتيتم ولِمَا يتصلُ به عند كُفْرِكُم به مِنْ مُحَاجَّتِهم لكم عند رَبِّكم " .
الرابع : أن ينتصِبَ " أَنْ يُؤْتَى بفعلٍ مقدَّرٍ يَدُلُّ عليه { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } كأنه قِيل : قل إنَّ الهدى هُدى الله فلا تُنْكروا أَنْ يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أُوتيتم ، فلا تُنْكِرُوا ناصبٌ لأنْ وما في حَيِّزها ، لأنَّ قولَه { وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } إنكار لأن يُؤْتَى أحد مثلَ ما أُوتوا . قال الشيخ : " وهذا بعيدٌ لأنَّ فيه حذفَ حرفِ النهي وحَذْفَ معمولِهِ ، ولم يُحْفَظْ ذلك من لسانِهم " قلت : متى دَلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أيِّ حالةٍ كان .
الخامس : أَنْ يكونَ " هدى الله " بدلاً من " الهدى " الذي هو اسمُ إنَّ ، ويكون خبرُ إنَّ : { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ } ، والتقديرُ : قل إنَّ هدى الله أَنْ يُؤْتى أحدٌ ، أي : إنَّ هدَى اللهِ إيتاءُ أحدٍ مثلَ ما أوتيتم ، وتكونَ " أو " بمعنى " حتى " ، والمعنى : حتى يُحاجُّوكم عند ربكم فيغلبوكم ويَدْحَضُوا حُجَّتكم عند الله ، ولا يكون " أَوْ يُحاجُّوكم " معطوفاً على أَنْ يُؤتى وداخلاً في حَيِّزِ أَنْ .
السادس : أَنْ يكونَ " أَنْ يُؤْتَى " بَدَلاً مِنْ هدى الله ، ويكون المعنى : قل إنَّ الهدى هدى الله وهو أَنْ يُؤْتَى أحدٌ كالذي جاءنا نحن ، ويكونُ قولُه :
" أو يُحاجُّوكم " بمعنى أو فليحاجوكم فإنهم يَغْلبونكم ، قاله ابن عطية ، وفيه نظرٌ ، لأنه يُؤَدِّي إلى حَذْفِ حرفِ النهيِ وإبقاءِ عملِهِ .
السابع : أَنْ تكونَ " لا " النافيةُ مقدرةً قبل " أَنْ يؤتى " فَحُذِفَتْ لدلالةِ الكلام عليها وتكونُ " أو " بمعنى إلاَّ أَنْ ، والتقديرُ : ولا تؤمنوا لأحدٍ بشيء إلاَّ لِمَنْ تَبع دينكم بانتفاءِ أن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلا مَنْ تبع دينكم ، وجاء بمثله وعاضداً له ، فإنَّ ذلك لا يُؤْتاه غيرُكم إلاَّ أنْ يُحاجُّوكم كقولِك : لألْزَمنَّك أو تقضيَني حقي ، وفيه ضعفٌ من حيث حَذْفُ " لا " النافية ، وما ذكروه من دلالةِ الكلامِ عليها غيرُ ظاهرٍ .
الثامن : أَنْ يكونَ " أَنْ يُؤْتى " مفعولاً من أجله ، وتحريرُ هذا القولِ أَنْ تجعلَ قولَه : { أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ } ليس داخلاً تحتَ قولِه " قل " بل هو من تمامِ قول الطائفةِ متصلٌ بقولِه : ولا تُؤمِنُوا إلا لِمَنْ جاءَ بمثلِ دينِكم مخافَةَ أَنْ يُؤْتى أحدٌ من النبوةِ والكرامة مثلَ ما أوتيتم ، ومخافَةَ أَنْ يُحاجُّوكُم بتصديقِكُم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه . وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكفرهم مع معرفتهم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولَمَّا قَدَّر المبرد المفعولَ من أجله هنا قَدَّر المضاف : كراهَة أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم ، أي : مِمَّن خالَفَ دينَ الإِسلام ، لأن الله لا يَهْدِي مَنْ هو كاذب وكَفَّار ، فهُدى الله بعيدٌ مِنْ غيرِ المؤمنين ، والخطابُ في " أوتيتم " و " يُحاجُّوكم " لأمةِ النبي صلى الله عليه وسلم .
واستضعف بعضُهم هذا وقال : كونُ مفعولاً من أجله على تقدير : " كراهةَ " يَحْتاج إلى تقديرِ عاملٍ فيه ويَصْعُبُ تقديرُهُ ، إذ قبلَه جملةٌ لا يظهرُ تعليلُ النسبةِ فيها بكراهةِ الإِيتاء المذكور .
التاسع : أنَّ " أَنْ " المفتوحَةَ تأتي للنفي كما تأتي " لا " نَقَل ذلك بعضُهم نصاً عن الفراء ، وجَعَل " أو " بمعنى إلا ، والتقدير : لا يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكُم ، فإنَّ إيتاءَه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو مُحاجَّتِكُم عند ربكم ، لأنَّ مَنْ آتاه اللهُ الوحيَ لا بد أن يُحاجَّهم عند ربهم في كونِهم لا يتَّبعونه ، فقوله : " أو يُحاجُّوكم " حالٌ لازمةٌ مِنْ جهةِ المعنى ، إذ لا يُوحي الله لرسولٍ إلا وهو مُحاجٌّ مخالفِيه . وهذا قولٌ ساقط إذ لم يثبت ذلك من لسانِ العرب .
واختلفوا في الجملةِ مِنْ قولِهِ : " ولا تُؤْمِنُوا " هل هي مِنْ مقولِ الطائفة أم من مقول الله تعالى ، على معنى أن الله تعالى خاطب به المؤمنين تثبيتاً لقلوبِهم وتسكيناً لجَأْشهم ؛ لئلا يَشُكُّوا عند تَلَبُّس اليهود عليهم وتزويرهم ؟ وقد نَقَلَ ابنُ عطية الإِجماعَ من أهلِ التأويل على أنه من مقول الطائفة ، وليس بسديدٍ لما نَقَلَهُ الناسُ من الخلاف .
و " أحد " يجوزُ أَنْ يكونَ في الآية الكريمة من الأسماء الملازمة للنفي وألاَّ يكون ، بل يكون بمعنى واحد . وقد تقدَّم الفرق بينهما بأن الملازم للنفي همزتُهُ أصلية ، والذي لا يلازم النفي همزته بدل من واو ، فعلى جَعْلِهِ ملازماً للنفي يظهر عَوْدُ الضمير عليه جمعاً اعتباراً بمعناه ، لأنَّ المراد به العموم ، وعليه قوله : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 47 ] جَمَعَ الخَبَرَ لمَّا كان " أحد " في معنى الجميع ، وعلى جَعْلِهِ غيرَ الملازم للنفي يكونُ جَمْعُ الضمير في " يُحاجُّوكُم " باعتبارِ الرسول عليه السلام وأتباعِهِ . وبعضُ الأوجهِ المتقدمة يَصِحُّ أَنْ يُجعل فيها " أحد " المذكورُ الملازمُ للنفي ، وذلك إذا كان الكلامُ على معنى الجَحْدِ ، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنعُ جَعْلُه الملازمَ للنفي ، والأمر واضحٌ مِمَّا تقدَّم .
وقرأ ابن كثير : " أأن يؤتى " بهمزة استفهام وهو على قاعدتِهِ في كونه يُسَهِّل الثانية بينَ بينَ من غير مدٍّ بينهما . وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على أوجه :
أحدها : أن يكون " أن يُؤتى " على حَذْفِ حرف الجر وهو لام العلة والمُعَلَّلُ محذوف ، تقديره : أَلأنْ يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودَبَّرتموه . وقد قَدَّمَتْ تحقيقَ هذا فحينئذٍ يَسُوغُ في محلِّ " أَنْ " الوجهان : أعني النصبَ مذهبَ سيبويه ، والجَرَّ مذهبَ الخليل .
الثاني : أَنَّ " أَنْ يُؤتَى " في محلِّ رفعب بالابتداءِ والخبر محذوف تقديره : أأن يؤتى أحد يا معشر اليهود مثلَ ما أوتيتم من الكتاب والعلم تُصَدِّقون به أو تعترفون به أو تَذْكُرونه لغيركم أو تُشيعونه في الناس ونحوُ ذلك مِمَّا يَحْسُن تقديرُه ، وهذا على قولِ مَنْ يقول : " أزيد ضربته " وهو وجه مرجوح ، كذا قَدَّرَهُ الواحدي تَبَعاً للفارسي ، وأحسنُ من هذا التقدير لأنه الأصل : أإتيان أحدٍ مثلَ ما أُوتيتم ممكنٌ أو مُصَدَّقٌ به .
الثالث : أن يكونَ منصوباً بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الفعلُ المضمرُ ، وتكونُ المسألةُ من بابِ الاشتغالِ والتقدير : أَتَذْكُرون أَنْ يُؤْتَى أحد تذكرونه ، فتذكرونه مفسِّرٌ لتذكرون الأول على حَدِّ : " أزيداً ضربته " ثم حُذِفَ الفعلُ الأخير المفسِّر لدلالةِ الكلام عليه ، وكأنه منطوقٌ به ، ولكونِهِ في قوة المنطوق به صَحَّ له أن يفسِّر مضمراً ، وهذه المسألةُ منصوص عليها . وهذا أرجحُ من الوجه قبله ، لأنه مثلُ : أزيداً ضربته ، وهو راجحٌ لأجلِ الطالب للفعل ، ومثلُ حَذْفِ هذا الفعلِ المقدَّرِ لدلالة ما قبلَ الاستفهامِ عليه حَذْفُ الفعل في قوله : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ } [ يونس : 91 ] قيل : تقديره : الآن آمنت ورَجَعْتَ وتُبْتَ ونحو ذلك .
قال الواحدي : " فإنْ قيل : كيف وُجِدَ دخولُ " أحد " في هذه القراءةِ وقد انقطَع من النفي والاستفهام ، وإذا انقطع الكلامُ إيجاباً وتقريراً فلا يجوز دُخولُ " أحد " ؟ قيل : يجوزُ أَنْ يكونَ " أحد " في هذا الموضع " أحداً " الذي في نحو : أحد وعشرين وهذا يقع في الإِيجاب ، ألا ترى أنه بمعنى واحد . وقال أبو العباس : " إن أحداً ووحَداً وواحداً بمعنى " .
وقوله : " أو يُحاجُّوكم " " أو " في هذه القراءةِ بمعنى حتى ، ومعنى الكلام : أَأن يُؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يحاجُّكم عند ربكم . قال الفراء : " ومثلُه في الكلام : تَعَلَّقْ به أو يُعْطِيَكَ حقك ، ومثلُه قولُ امرىء القيس :
فَقُلْتُ له : لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنما *** نحاوِلُ مُلْكاً أو نموتَ فَنُعْذَرَا
أي : حتى ، ومِنْ هذا قولُه تعالى :
{ لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ آل عمران : 128 ] قال : " فهذا وجه ، وأجودُ منه أن تجعلَه عطفاً على الاستفهام ، والمعنى : أأن يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم أو يُحاجّكم أحدٌ عند الله تُصَدِّقونه وهذا كله معنى قول الفارسي ، ويجوز أن يكون " أن يؤتى أحد " منصوباً بفعل مقدر لا على سبيل التفسير ، بل لمجرد الدلالة المعنوية تقديرُه : أتذكرون أو أَتَشِيعونَ أَنْ يُؤْتَى أحدٌ ، ذكره الفارسي أيضاً ، وهذا هو الوجهُ الرابع .
الخامس : أَنْ يكونَ " أَنْ يؤتى " في قراءته مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قولِ الطائفة . وهو أظهرُ مِنْ جَعْلِهِ من قول الطائفة .
وقد ضَعَّف الفارسي قراءةَ ابن كثير فقال : " وهذا موضِعٌ ينبغي أن تُرَجَّح فيه قراءةُ غير ابن كثير على قراءة ابن كثير ، لأنَّ الأسماءَ المفردة ليس بمستمرٍ فيها أن تَدُلَّ على الكثرة " . وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة : " إنْ يؤتى " بكسر الهمزة ، وخَرَّجها الزمخشري على أنها : " إنْ " النافية فقال : " على إن النافية ، وهو متصل بكلام أهل الكتاب أي : ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم وقولوا لهم : ما يُؤْتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم حتى يُحاجُّوكم عند ربكم ، يعني لا يُؤْتَوْن مثلَه فلا يُحاجُّونكم " .
وقال ابن عطية : " وهذه القراءةُ تحتمل أن يكونَ الكلامُ خطاباً من الطائفةِ القائلة ، ويكونُ قولُها " أو يحاجُّوكم " بمعنى : أو فليحاجُّوكم وهذا على التصميمِ على أنه لا يؤتى أحدٌ مثلَ ما أوتي ، أو تكون بمعنى : إلاَّ أَنْ يُحاجُّوكم ، وهذا على تجويز أَنْ يؤتى أحدٌ ذلك إذا قامت الحجة له " فقد ظَهَرَ على ما ذَكَرَ ابن عطية أنه يجوزُ في " أو " في هذه القراءةِ أن تكونَ على بابِها مِنْ كونِها للتخيير والتنويع ، وأَنْ تكونَ بمعنى " إلاَّ " ، إلاَّ أنَّ فيه حَذْفَ حرفِ الجزم وإبقاءَ عمله ، وهو لا يجوز ، وعلى قولِ غيره تكونُ بمعنى حتى .
وقرأ الحسن : " أَنْ يُؤْتى أحدٌ " على بناءِ الفعل للفاعل . ولَمَّا نقل هذه القراءةَ بعضُهم لم يتعرَّض ل " ان " بفتحٍ ولا كسرٍ كأبي البقاء ، وتعرَّض لها بعضُهم فقيَّدها بكسرِ " إنْ " وفسَّرها ب " إنْ " النافية ، والظاهر في معناها أن إنعام الله لا يشبهه إنعام أحد من خلقه ، وهي خطابٌ من النبي صلى الله عليه وسلم لأمته ، والمفعولُ محذوف تقديره : إنْ يؤتي أحدٌ أحداً مثلَ ما أوتيتم ، فحُذِفَ المفعولُ الأولُ وهو " أحداً " لدلالة المعنى عليه ، وأُبْقِيَ الثاني .
وهذا ما تلخَّص مِنْ كلام الناس في هذه الآية مع اختلافه ولله الحمد . قال الواحدي : " وهذه الآية من مشكلات القرآن وأصعبهِ تفسيراً ، ولقد تدبَّرْتُ أقوال أهل التفسير والمعاني في هذه الآية ، فلم أَجِدْ قولاً يَطَّرِدُ في هذه الآية من أولِها إلى آخِرها مع بيان المعنى وصحة النظم " .