الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ ٱلۡقَصَصُ ٱلۡحَقُّۚ وَمَا مِنۡ إِلَٰهٍ إِلَّا ٱللَّهُۚ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ} (62)

قوله تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ } : يجوزُ أَنْ يكونَ " هو " فصلاً ، والقصصُ خبر " إنَّ " ، و " الحقُّ " صفتُهُ ، ويجوزُ أنْ يكون " هو " مبتدأ

و " القَصَصُ " خبرَه ، والجملةُ خبرَ " إنَّ " ، والإِشارةُ بهذا إلى ما تقدَّم ذكرُه من أخبارِ عيسى عليه السلام ، وقيل : بل هو إشارةٌ لِما بعدَه وهو قولُه : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ } . وضُعِّفَ هذا بوجهين ، أحدُهما : أنَّ هذا ليس بقصص ، والثاني : أنه مقترنٌ بحرفِ العطفِ ، وقد اعتذر بعضهم عن الأول فقال : إنْ أراد بالقصص الخبرَ فَيَصِحُّ على هذا ، ويكون التقدير : إنَّ الخبر الحق أنه ما من إله إلا الله ، ولكن الاعتراض الثاني باقٍ لم يُجَبْ عنه .

والقَصَصُ : مصدرُ قولهم : قَصَّ فلان الحديثَ يَقُصَّه قَصَّاً وقَصَصَاً . وأصلُه : تتبُّعُ الأثرِ ، يقال : " فلان خَرَجَ يَقُصُّ أثرَ فلان " أي : يَتْبعه ليعرفَ أين ذَهَبَ ؟ ومنه قولُه تعالى : { وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } [ القصص : 11 ] أي : اتِّبعي أثره وكذلك القاصُّ في الكلام لأنه يتتَّبع خبراً بعد خبر . وقد تقدَّم التنبيه على قراءتَيْ : " لَهْو " بسكون الهاء وضمِّها ، إجراءً له مُجْرَى عَضُد .

قال الزمخشري : " فإنْ قلت لِمَ جاز دخول اللام على الفصل ؟ قلت : إذا جاز دخولها على الخبر فدخولُها على الفصلِ أجوزُ ، لأنها أقربُ إلى المبتدأ منه ، وأصلُها أَنْ تدخُلَ على المبتدأ " .

قوله : { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ } يجوز فيه وجهان :

أحدهما : أن " من إله " مبتدأ ، و " مِنْ " مزيدةٌ فيه ، و " إلا اللهُ " خبره تقديره : ما إله إلا اللهُ ، وزيدت " مِنْ " للاستغراق والعموم . قال الزمخشري : " ومِنْ في قوله { وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ } بمنزلةِ البناءِ على الفتح في " لا إله إلا اللهَ " في إفادةِ معنى الاستغراقِ " قلت : الاستغراقُ في

" لا إله إلا اللهُ " لم نَسْتفِدْه من البناء على الفتحِ بل استفدناه من " مِنْ " المقدرة الدالة على الاستغراق ، نصَّ النَّحْويون على ذلك ، واستدلَّوا عليه بظهورها في قول الشاعر :

فقام يذودُ الناسَ عنها بسيفِه *** فقال ألا لا مِنْ سبيلٍ إلى هندِ

والثاني : أن يكونَ الخبرُ مضمراً تقديرُه : وما من إلهٍ لنا إلا الله ، و " إلا اللهُ " بدلٌ من موضع " من إله " لأن موضعَه رفعٌ بالابتداء ، ولا يجوزُ في مثله الإِبدالُ من اللفظِ ، لئلا يَلْزَمَ زيادةُ مِنْ في الواجب ، وذلك لا يجوز عند الجمهور ، ويجوز في مثل هذا التركيب نصبُ ما بعد " إلا " على الاستثناء ، ولكنه لم يُقرأ به ، إلا أنه جائز لغةً ، تقول " لا إله إلا اللهُ " برفع الجلالة بدلاً من الموضع ، ونصبِها على الاستثناء من الضميرِ المستكنِّ في الخبرِ المقدَّر ، إذ التقديرُ : لا إله استقر لنا إلا الله .

وقوله : { وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } كقوله : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ } .