الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَقَالَت طَّآئِفَةٞ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَٰبِ ءَامِنُواْ بِٱلَّذِيٓ أُنزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَجۡهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكۡفُرُوٓاْ ءَاخِرَهُۥ لَعَلَّهُمۡ يَرۡجِعُونَ} (72)

قوله تعالى : { وَجْهَ النَّهَارِ } : منصوبٌ على الظرفِ لأنه بمعنى أول النهار ، قال الربيع بن زياد العبسي :

مَنْ كان مسروراً بمقتلِ مالكٍ *** فَلْيَأْتِ نسوتَنا بوجهِ نهارِ

أي بأوله . وفي ناصبِ هذا الظرفِ وجهان :

أحدُهما : وهو الظاهرُ أنهُ فعلُ الأمرِ مِنْ قولِهِ : " آمِنوا " ِأي : أَوْقِعوا إيمانَكم في أول النهار ، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره .

الثاني : أنه " أُنْزل " أي : آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار ، وليس ذلك بظاهرٍ بدليلِ المقابلةِ في قولِهِ : { وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ } فإنَّ الضميرَ يعودُ على النهارِ ، ومَنْ جَوَّزَ الوجهَ الثاني جَعَلَ الضميرَ يعودُ على الذي أُنْزِلَ ، أي : واكفروا آخر المُنَزَّل ، وأسبابُ النزولِ تخالف هذا التأويل .

وفي هذا البيت الذي أنشدته فائدةٌ رأيت ذِكْرَها ، وذلك أنه من قصيدةٍ يرثي بها مالك بن زهير بن حريمة العبسي وبعده :

يَجِدَ النساءَ حواسراً يَنْدُبْنَهُ *** يَلْطِمْنَ أوجُهَهُنَّ بالأسحارِ

قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوجوهَ تَسَتُّراً *** فاليومَ حين بَدَوْنَ للنُّظَّارِ

ومعنى الأبياتِ يَحْتاجُ إلى معرفةِ اصطلاحِ العربِ في ذلك ، وهو أَنَّهُمْ كانوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائِحَةٌ ولا تَنْدُبُهُ نادبةٌ حتى يُؤْخَذَ بثأره ، فقال هذا : مَنْ سَرَّة قَتْلُ مالكٍ فَلْيَأْتِ في أولِ النهار يَجِدْنَا قد أَخَذْنَا بثأرِهِ ، فَذَكَر اللازم للشيء ، فهو من بابِ الكناية .

ويُحْكَى أنَّ الشيباني سأل الأصمعيَّ : كيف تُنْشِدُ قولَ الربيع : حين بَدَأْنَ أو بَدَيْن ؟ فردَّدَهُ بين الهمزة والياء . فقال الأصمعي : بَدَأْنَ ، فقال : أخطأت ، فقال : بَدَيْنَ ، فقال : أخطأت فغضِبَ لها الأصمعي ، وكان الصوابُ أن يقولَ : بَدَوْنَ بالواو ، لأنه من بدا يبدو ، أي : ظهر . فأتى الأصمعي يوماً للشيباني فقال له : كيف تُصَغِّرُ مختاراً ؟ فقال : أقول مُخَيْتير ، فضحك منه وصَفَّق بيديه وشَنَّع عليه في حَلقته ، وكان الصوابُ أن يقول : مُخَيِّر بتشديد الياء ، وذلك أنه اجتمع زائدان : الميم والتاء ، والميمُ أَوْلى بالبقاء لعلة ذكرها التصريفيون ، فَأَبْقاها ، وحَذَفَ التاءَ ، وأتى بياءِ التصغير فَقَلَبَ لأجلها الألفَ ياءً ، وأَدْغَمها فيها ، فصارَ " مُخَيِّراً " كما تَرَى ، وهو يحتمل أن يكونَ اسمَ فاعل أو اسمَ مفعولٍ كما كان يحتملهما مُكَبَّرُه ، وهذا أيضاً يُلْبَسً باسمِ فاعل خَيَّر يُخَيِّر فهو مُخيِّر ، والقرائِنُ تُبيِّنُهُ .

ومفعول " يَرْجِعُون " محذوفٌ أيضاً اقتصاراً أي : لعلهم يكونون مِنْ أهلِ الرجوع ، أو اختصاراً أي : يَرْجِعُونَ إلى دينكم وما أنتم عليه .