الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي يَتَوَفَّىٰكُم بِٱلَّيۡلِ وَيَعۡلَمُ مَا جَرَحۡتُم بِٱلنَّهَارِ ثُمَّ يَبۡعَثُكُمۡ فِيهِ لِيُقۡضَىٰٓ أَجَلٞ مُّسَمّٗىۖ ثُمَّ إِلَيۡهِ مَرۡجِعُكُمۡ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمۡ تَعۡمَلُونَ} (60)

قوله تعالى : { بِاللَّيْلِ } : متعلق بما قبله على أنه ظرف له ، والباء تأتي بمعنى " في ، وقد قدَّمْتُ منه جملةً صالحة . وقال أبو البقاء هنا : " وجاز ذلك لأنَّ الباء للإِلصاق ، والملاصِقُ للزمان والمكان حاصل فيهما " يعني فهذه العلاقَةُ المجوِّزةُ للتجوُّز ، وعلى هذا فلا حاجة إلى أن ينوبَ حرفٌ مكان آخر ، بل نقول : هي هنا للإِلصاق مجازاً نحو ما قالوه في " مررت بزيد " وأسند التوفِّيَ هنا إلى ذاته المقدسة لأنه لا يُنْفَرُ منه هنا ، إذ المرادُ به الدَّعة والراحة ، وأسنده إلى غيره في قوله تعالى : { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا }

[ الأنعام : 61 ] { يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ } [ السجدة : 11 ] لأنه يُنْفَرُ منه ، إذ المرادُ به الموت .

وقوله : { مَا جَرَحْتُم } الظاهر أنها مصدريةٌ ، وإن كان كونُها موصولةً اسميةً أكثرَ ، ويجوز أن تكونَ نكرةً موصوفةً بما بعدها ، والعائد على كلا التقديرين الآخرين محذوف ، وكذا عند الأخفش وابن السراج على القول الأول . و " بالنهار " كقوله : { بِاللَّيْلِ } والضمير في " فيه " عائد على النهار . هذا هو الظاهر قال الشيخ : " عاد عليه لفظاً " والمعنى : في يوم آخر ، كما تقول : عندي درهم ونصفه " قلت : ولا حاجةَ في الظاهر إلى عوده على نظير المذكور ، إذ عَوْدُه على المذكور لا محذورَ فيه ، وأمَّا من نحو : " درهم ونصفه " فلضرورة انتفاء العيِّ من الكلام ، قالوا : لأنك إذا قلت : " عندي درهم " عُلِمَ أن عندك نصفَه ضرورةً ، فقولك بعد ذلك : " ونصفه " تضطر إلى عَوْدِه إلى نظير ما عندك بخلاف ما نحن فيه . وقيل : يعود على الليل . وقيل : يعود على التوفِّي وهو النوم أي : يُوقظكم في خلال النوم . وقال الزمخشري : " ثم يَبْعثكم مِن القبور في شأن الذي قطعتم به أعماركم من النوم بالليل وكَسْبِ الآثام بالنهار " انتهى . وهو حسن .

وخصَّ الليل بالتوفي والنهار بالكسب وإن كان قد يُنام في هذا ، ويُكسَبُ في الآخر اعتباراً بالحال الأغلب . وقَدَّم التوفِّيَ بالليل لأنه أبلغ في المِنَّة عليهم ، ولا سيما عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكَسْب الشر دون الخير .

قوله : { لِيُقْضَى أَجَلٌ } الجمهور على " لِيُقْضَى " مبنياً للمفعول و " أجلٌ " رفع به ، وفي الفاعل المحذوف احتمالان ، أحدهما : أنه ضمير الباري تعالى . والثاني : أنه ضمير المخاطبين ، أي : لتقضوا أي : لتستوفوا آجالكم . وقرأ أبو رجاء وطلحة : " ليقضي " مبنياً للفاعل وهو الله تعالى ، " أجلاً " مفعول به ، و " مُسَمَّى " صفة ، فهو مرفوع على الأول ومنصوب على الثاني ، ويترتب على ذلك خلافٌ للقراء في إمالة ألفهِ قد أوضحته في " شرح القصيد " واللام في " لِيُقْضَى " متعلقةٌ بما قبلها من مجموعِ الفعلين أي : يتوفَّاكم ثم يبعثكم لأجل ذلك .