الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِٱلۡحَقِّۖ وَيَوۡمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُۚ قَوۡلُهُ ٱلۡحَقُّۚ وَلَهُ ٱلۡمُلۡكُ يَوۡمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِۚ عَٰلِمُ ٱلۡغَيۡبِ وَٱلشَّهَٰدَةِۚ وَهُوَ ٱلۡحَكِيمُ ٱلۡخَبِيرُ} (73)

قوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن } : في " يوم " ثمانية أوجه أحدها - وهو قول الزجاج - أنه مفعول به لا ظرف وهو معطوف على الهاء في " اتقوه " أي : واتقوا يومَ أي عقابَ يومِ يقول أو هَوْلَه أو فَزَعَه ، فهو كقوله تعالى في موضع آخر : { وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي } [ البقرة : 48 ] على المشهور في إعرابه . الثاني : أنه مفعول به أيضاً ولكنه نسق على " السماوات والأرض " أي : وهو الذي خلق يوم يقول . الثالث : أنه مفعولٌ لا ذكْرُ مقدراً . الرابع : أنه منصوبٌ بعامل مقدَّرٍ ، وذلك العامل المقدر مفعول فعل مقدر أيضاً ، والتقدير : واذكروا الإِعادة يوم يقول : كن أي : يوم يقول الله للأجساد كوني معادةً . الخامس : أنه عطف على موضع قوله " بالحق " فإنَّ موضعه نصب ويكون " يقول " بمعنى " قال " ماضياً كأنه قيل : وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق ويوم قال لها : كن .

السادس : أن يكون " يوم يقول " خبراً مقدماً ، والمبتدأ " قوله " و " الحق " صفته ، أي : قوله الحق في يوم يقول كن فيكون ، وإليه نحا الزمخشري فإنه قال : " قوله الحق مبتدأ ويوم يقول خبره مقدماً عليه ، وانتصابه بمعنى الاستقرار كقولك " يوم الجمعة القتال " واليوم بمعنى الحين ، والمعنى : أنه خلق السماوات والأرض قائماً بالحكم وحين يقول لشيء من الأشياء كن ، فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة . السابع : أنه منصوب على الظرف ، والناصب له معنى الجملة التي هي " قوله الحق " أي : حق قوله في يوم يقول كن الثامن : أنه منصوب بمحذوف دلَّ عليه " بالحق "

قال الزمخشري : " وانتصابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله " بالحق " كأنه قيل : وحين يكونّ ويقدّر يقوم بالحق " قال الشيخ : " وهذا إعراب متكلف " .

قوله : { فَيَكُونُ } هي هنا تامة ، وكذلك قوله : { كن } فتكتفي بمرفوع ولا تحتاج إلى منصوب ، وفي فاعلها أربعة أوجه ، أحدها : أنه ضمير جميع ما يخلقه الله تعالى يوم القيامة ، كذا قَيَّده أبو البقاء بيوم القيامة . وقال مكي : " وقيل : تقدير المضمر في " فيكون " جميع ما أراد " فأطلق ولم يقيِّدْه ، وهذا أولى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال . الثاني : أنه ضمير الصور المنفوخ فيها ، ودلَّ عليه قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ } الثالث : هو ضمير اليوم أي : فيكون ذلك اليوم العظيم . الرابع : أن الفاعل هو " قولُه " و " الحق " صفته أي : فيوجَدُ قوله الحق ، ويكون الكلام على هذا تاماً على " الحق " .

قوله : { قَوْلُهُ الْحَقُّ } فيه أربعةُ أوجه ، أحدها : أنه مبتدأ و " الحق " نعته ، وخبره قوله " يوم يقول " والثاني : أنه فاعل لقوله " فيكون " " والحق " نعته أيضاً ، وقد تقدَّم هذان الوجهان ، .

الثالث : أنَّ " قولُه " مبتدأ ، و " الحقٌّ " خبره ، أَخْبَرَ عن قوله بأنه لا يكون إلا حقاً . الرابع : أنه مبتدأ أيضاً و " ألحق " نعته ، و " يوم يُنْفخ " خبره ، وعلى هذا ففي قوله " وله الملك " ثلاثة أوجه أحدها : أن تكونَ جملةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره فلا محلَّ لها حينئذ من الإِعراب . والثاني : ان يكون " الملك " عطفاً على " قوله " وأل فيه عوضٌ عن الضمير ، " وله " في محل نصب على الحال من " الملك " العامل فيه الاستقرار والتقدير : قولُه الحقُّ وملكه كائناً له يوم يُنفخ ، فأخبرت عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنان في يوم ينفخ في الصور . الثالث : أنَّ الجملة من " وله الملك " في محل نصب على الحال ، وهذا الوجه ضعيف لشيئين ، أحدهما : أنها تكون حالاً مؤكدة ، والأصل : أن تكون مؤسسةً . الثاني : أن العاملَ فيها معنويٌّ ؛ لأنه الاستقرار المقدَّر في الظرف الواقع خبراً ، ولا يجيزه إلا الأخفشُ ومَنْ تابعه . وقد تقرَّر مذهبُه غيرَ مرة بدلائله .

قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ } فيه ثمانية أوجه ، أحدها : أنه خبر لقوله " قول الحق " وقد تقدَّم هذا بتحقيقه ، الثاني : أنه بدل من " يوم يقول " فيكون حكمه حكمَ ذاك . الثالث : أنه ظرف ل " تُحْشَرون " أي : وهو الذي إليه تُحشرون في يوم ينفخ في الصور . الرابع : أنه منصوب بنفس الملك أي : وله الملك في ذلك اليوم فإن قلت : يلزم من ذلك تقيُّد الملك بيوم النفخ والملك له كل وقت . فالجواب ما أُجيب به في قوله { لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ؟لِلَّهِ } [ غافر : 16 ] وقوله : { وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } [ الانفطار : 19 ] وهو أن فائدةَ الإِخبار بذلك أنه أَثْبَتَ المُلْك والأمر في يوم لا يمكن أحد أن يدِّعي فيه شيئاً من ذلك فكذلك هذا . الخامس : أنه حال من الملك ، والعامل فيه " له " تضمَّنه من معنى الفعل . السادس : انه منصوبٌ بقوله " يقول " السابع : أنه منصوب بعالم الغيب بعده . الثامن : أنه منصوب بقوله " قول الحق " فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانيةُ أوجه ، ولله الحمد .

والجمهور على " يُنْفَخُ " مبنيَّاً للمفعول بياء الغيبة ، والقائم مقام الفاعل الجارُّ بعده . وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوراث : " ننفخ " بنون العظمة مبنياً للفاعل . والصُّور : الجمهورُ على قراءته ساكنَ [ العين ] وقرأه الحسن البصري بفتحها ، فأمَّا قراءة الجمهور فاختلفوا في معنى الصُّور فيها ، فقال جماعة : الصُّور جمع صُورة كالصُّوف جمع صُوفة ، والثُّوم جمع ثومة ، وهذا ليس جمعاً صناعياً وإنا هو اسم جنس ، إذ يُفَرَّق بينه وبين واحده بتاء التأنيث ، وأيَّدوا هذا القولَ بقراءة الحسنِ المتقدمة .

وقال جماعةٌ : إن الصُّور هو القَرْن ، قال بعضهم : هي لغة اليمنِ وأنشد :

نحن نَطَحْناهُمْ غَداة الجَمْعَيْنْ *** بالشامخات في غبار النَّقْعَيْنْ

نَطْحاً شديداً لا كنطح الصُّوْرَيْن

وأيَّدوا ذلك بما ورد الأحاديث الصحيحة ، قال عليه السلام : " كيف أَنْعَمُ وصاحبُ القَرْن قد التقمه " وقيل : في صفته إنه قَرْنٌ مستطيل فيه أبخاش ، وأن أرواحَ الناس كلهم فيه ، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجَتْ روحُ كلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش . وأنحى أبو الهيثم على مَنْ ادَّعى أن الصُّور جمع صُوره فقال : " وقد اعترض قومٌ فأنكروا أن يكون الصُّور قرناً كما أنكروا العرش والميزان والصراط ، وادَّعَوا أن الصور جمع الصورة كالصوف جمع الصوفة ، ورَوَوْا ذلك عن أبي عبيدة ، وهذا خطأٌ فاحشٌ وتحريفٌ لكلام الله عز وجل عن مواضعه لأن الله قال : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } [ غافر : 64 ] { وَنُفِخَ فِي الصُّورِ } [ الكهف : 99 ] فَمَنْ قرأها : " ونُفِخ في الصُّوَرِ " أي بالفتح ، وقرأ " فَأَحْسَنَ صُوْرَكم " أي بالسكون فقد افترى الكذبَ على الله ، وكان أبو عبيد صاحبَ أخبارٍ وغريب ولم يكن له معرفة بالنحو " قال الأزهري : " قد احتجَّ أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج ، ولا يجوز عندي غيرُ ما ذهب إليه وهو قول أهل السنة والجماعة " أنتهى ، ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم . وقال الفراء : " يُقال : نَفَخ في الصور ونَفَخَ الصورَ " وأنشد :

لولا ابنُ جَعْدَةَ لم يُفْتَح قُهَنْدُزُكُمْ *** ولا خراسانُ حتى يُنْفَخَ الصُّورُ

وفي المسألة كلامٌ أكثرُ من هذا تركتُه إيثاراً للاختصار .

قوله : { عَالِمُ الْغَيْبِ } في رفعه أربعةُ أوجه ، أحدها : أن يكون صفةً للذي في قوله : { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ } وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بأجنبيٍّ . الثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : هو عالم . الثالث : أنه فاعلٌ لقوله : { يقول } أي : يوم يقول عالم الغيب . الرابع : أنه فاعل بفعلٍ محذوف يدل عليه الفعلُ المبنيُّ للمفعول ؛ لأنه لمَّا قال " يُنفخ في الصور " سأل سائِلٌ فقال : من الذي يَنْفُخ ؟ فقيل : " عالم الغيب " أي : " يُنْفخ فيه عالمُ الغيب أي : يأمر بالنفخ فيه ، كقوله : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ } [ النور : 3637 ] أي يُسَبِّحُه ، ومثله أيضاً قول الآخر :

ليُبْكَ يزيدُ ضارعٌ لخصومةٍ *** ومختبطٌ ممَّا تُطيح الطوائح

أي : مَنْ يَبْكيه ؟ فقيل : ضارع ، أي : يبكيه ضارع ومثله : " وكذلك زُيِّن لكثير من المشركين قَتْلُ أولادِهم شركاؤُهم " في قراءة مَنْ بني " زُيِّن " للمفعول ورفع " قَتْلُ " و " شركاؤهم " كأنه قيل : مَنْ زيَّنه لهم ؟ فقيل : زيَّنه شركاؤهم . والرفع على ما تقدَّم قراءة الجمهور ، وقرأ الحسن البصري والأعمش : " عالمِ " بالجر وفيها ثلاثة أوجه ، أحسنها : أنه بدل من الهاء في " له " الثاني : أنه بدل من " رب العالمين " وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه . الثالث : أنه نعت للهاء في " له " وهذا إنما يتمشَّى على رأي الكسائيّ حيث يجيز نعت المضمر بالغائب وهو ضعيفٌ عند البصريين والكوفيين غيرَ الكسائي .