الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{يَتِيمٗا ذَا مَقۡرَبَةٍ} (15)

وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائيُّ " فَكَّ " فعلاً ماضياً ، " ورقبةً " نصباً " أو أَطْعم " فعلاً ماضياً أيضاً . والباقون " فَكُّ " برفع الكاف اسماً ، " رقبةٍ " خَفْصٌ بالإِضافة ، " أو إطعامٌ " اسمٌ مرفوعٌ أيضاً . فالقراءةُ الأولى الفعلُ فيها بَدَلٌ مِنْ قولِه " اقتحمَ " فهو بيانٌ له ، كأنَّه قيل : فلا فَكَّ رقبةً ولا أطعَمَ ، والثانيةُ يرتفع فيها " فَكُّ " على إضمار مبتدأ ، أي : هو فَكُّ رقبة أو إطعامٌ ، على معنى الإِباحة . وفي الكلامِ حَذْفُ مضافٍ دلَّ عليه " فلا اقتحمَ " تقديرُه : وما أدراك ما اقتحامُ العقبة ؟ فالتقدير : اقتحامُ العقبة فكُّ رَقَبَة أو إطعامٌ ، وإنما احْتيج إلى تقديرِ هذا المضافِ ليتطابقَ المفسِّر والمفسَّر . ألا ترى أنَّ المفسِّر - بكسرِ السين - مصدرٌ ، والمفسَّر - بفتحِ السينِ - وهو العقبةُ غيرُ مصدر ، فلو لم نُقَدِّرْ مضافاً لكان المصدرُ وهو " فَكُّ " مُفَسِّراً للعين ، وهو العقبةُ .

وقرأ أميرُ المؤمنين وأبو رجاء " فَكَّ أو أطعمَ " فعلَيْن كما تقدَّم ، إلاَّ أنهما نصبا " ذا " بالألف . وقرأ الحسن " إطعامٌ " و " ذا " بالألفِ أيضاً وهو على هاتَيْنِ القراءتَيْن مفعولُ " أَطْعم " أو " إطعامٌ " و " يتيماً " حينئذٍ بدلٌ منه أو نعتٌ له . وهو في قراءةِ العامَّةِ " ذي " بالياء نعتاً ل " يوم " على سبيل المجاز ، وُصِفَ اليومُ بالجوع مبالغةً كقولهم : " ليلُك قائمٌ ونهارُك صائمٌ " والفاعلُ لإِطعام محذوفٌ ، وهذا أحدُ المواضعِ التي يَطَّرِدُ فيها حَذْفُ الفاعلِ وحدَه عند البصريين ، وقد بَيَّنْتُها مُسْتوفاةً ولله الحمدُ .

والمَسْغَبَةُ : الجوعُ مع التعبِ ، وربما قيل في العطش مع التعب ، قال الراغب . يُقال منه : سَغِبَ الرجل يَسْغَبُ سَغْباً وسُغُوباً فهو ساغِبٌ وسَغْبانُ والمَسْغَبَةُ مَفْعَلَة منه ، وكذلك المَتْرَبَةُ من التراب . يقال تَرِب ، أي : افتقر حتى لَصِقَ جِلْدُه بالتراب . فأمَّا أَتْرَبَ بالألف فبمعنى استغنى نحو : أَثْرى ، أي : صار مالُه كالتراب وكالثَّرى والمَقْرَبَةُ أيضاً : مَفْعَلَة من القَرابة . وللزمخشري هنا عبارةٌ حلوة قال : " والمَسْغَبَةُ والمَقْرَبَةُ والمَتْرَبَةُ مَفْعَلات مِنْ سَغِبَ إذا جاع وقَرُبَ في النَّسَب وتَرِبَ إذا افتقر " .