الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَنتَ حِلُّۢ بِهَٰذَا ٱلۡبَلَدِ} (2)

قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ } : فيه وجهان ، أحدُهما : أنَّ الجملةَ اعتراضيةٌ على أحد معنَييْن : إمَّا على معنى أنه تعالى أَقْسَمَ بهذا البلدِ وما بعدَه على أنَّ الإِنسانَ خُلِقَ في كَبَدٍ واعتُرِض بينهما بهذه الجملةِ ، يعني ومن المكابَدَةِ أنَّ مثلَكَ على عِظَمِ حُرْمَتِك يُسْتَحَلُّ بهذا البلدِ كما يُسْتَحَلُّ الصَّيْدُ في غير الحَرَمِ ، وإمَّا على معنى أنَّه أَقْسَم ببلدِه على أنَّ الإِنسان لا يَخْلُوا مِنْ مَقاساةِ الشدائِد . واعْتُرِض بأَنْ وَعَدَه فتحَ مكة تَتْميماً للتسلية ، فقال : وأنت حِلٌّ به فيما تَسْتَقْبِلُ تصنعُ فيه ما تريدُ من القَتْلِ والأَسْرِ ، ف " حِلٌّ " بمعنى حَلال ، قال معنى ذلك الزمخشري . ثم قال : " فإنْ قلتَ أين نظيرُ قولِه " وأنت حِلٌّ " في معنى الاستقبال ؟ قلت : قوله تعالى { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } [ الزمر : 30 ] ومثلُه واسعٌ في كلامِ العبادِ تقول لمن تَعِدُهُ الإِكرامَ والحِباء : أنت مُكَرَّمٌ مَحْبُوٌّ ، وهو في كلامِ اللَّهِ تعالى أوسعُ ؛ لأنَّ الأحوال المُسْتَقْبَلَةَ عنده كالحاضرِةَ المشاهَدَةِ ، وكفاك دليلاً قاطِعاً على أنه للاستقبالِ ، وأنَّ تفسيرَه بالحالِ مُحالٌ ، أنَّ السورةَ بالاتفاقِ مكيةٌ ، وأين الهجرةُ عن وقتِ نزولِها فما بالُ الفتحِ ؟ وقد ناقشه الشيخ بما لا يَتَّجِهُ ، ورَدَّ عليه قولَه الإِجماعَ على نزولِها بمَكةَ بخلافٍ حكاه ابنُ عطية .

الثاني من الوجَهْين الأوَّلَيْن . أنَّ الجملةَ حاليةٌ ، أي : لا أُقْسِمُ بهذا البلدِ وأنت حالٌّ بها لعِظَمِ قَدْرِك ، أي : لا يُقْسِمُ بشيءٍ وأنت أحَقُّ بالإِقسام بك منه . وقيل : المعنى لا أٌقْسِم به وأنت مُسْتَحَلٌّ فيه ، أي : مُسْتَحَلٌّ أَذاك . وتقدَّم الكلام في مثلِ " لا " هذه المتقدِّمةِ فِعْلَ القسمِ .