الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{فَيَوۡمَئِذٖ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُۥٓ أَحَدٞ} (25)

قوله : { لاَّ يُعَذِّبُ } : قرأ الكسائي " لا يُعَذَّبُ " و " لا يُوْثَقُ " مبنيين للمفعولِ . والباقون قرؤُوهما مبنيَّيْن للفاعل . فأمَّا قراءةُ الكسائي فأُسْنِد الفعلُ فيها إلى " أحد " وحُذِفَ الفاعلُ للعِلْم به وهو اللَّهُ تعالى أو الزَّبانيةُ المُتَوَلُّون العذابَ بأمرِ اللَّهِ تعالى . وأمَّا عذابه ووَثاقه فيجوزُ أَنْ يكونَ المصدران مضافَيْن للفاعلِ والضميرِ للَّهِ تعالى ، ومضافَيْنِ للمفعول ، والضميرُ للإِنسانِ ، ويكون " عذاب " واقعاً موقع تَعْذيب . والمعنى : لا يُعَذَّبُ أحدٌ تعذيباً مثلَ تعذيبِ اللَّهِ تعالى هذا الكافرَ ، ولا يُوْثَقُ أحدٌ توثيقاً مثلَ إيثاقِ اللَّهِ إياه بالسَّلاسِلِ والأغلالِ ، أو لا يُعَذَّبُ أحدٌ مثلَ تعذيبِ الكافرِ ، ولا يُوْثَقُ مثلَ إيثاقِه ، لكفرِه وعنادِه ، فالوَثاق بمعنى الإيثاق كالعَطاء بمعنى الإِعطاء . إلاَّ أنَّ في إعمالِ اسمِ المصدرِ عملَ مُسَمَّاه خلافاً مضطرباً فنُقل عن البصريين المنعُ ، وعن الكوفيين الجوازُ ، ونُقل العكسُ عن الفريقَيْن . ومن الإِعمال قولُه :

أكُفْراً بعد رَدِّ الموتِ عني *** وبعد عَطائِكَ المِئَةَ الرَّتاعا

ومَنْ مَنَعَ نَصَبَ " المِئَة " بفعلٍ مضمر . وأَصْرَحُ من هذا قولُ الآخر :

4572 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . *** فإنَّ كلامَها شفاءٌ لِما بيا

وقيل : المعنى ولا يَحْمِلُ عذابَ الإِنسانِ أحدٌ كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ الأنعام : 164 ] قاله الزمخشري . وأمَّا قراءةُ الباقين فإنه أَسْنَدَ الفعلَ لفاعلِه . /

والضميرُ في " عذابَه " و " وَثاقَه " يُحتمل عَوْدُه على الباري تعالى ، بمعنى : أنَّه لا يُعَذِّبُ في الدنيا مثلَ عذابِ اللَّهِ تعالى يومئذٍ أحدٌ ، أي : إنَّ عذابَ مَنْ يُعَذِّبُ في الدنيا ليس كعذابِ الله تعالى يومَ القيامةِ ، كذا قاله أبو عبد الله ، وفيه نظرٌ : من حيث إنه يَلْزَمُ أَنْ يكونَ " يومئذٍ " معمولاً للمصدرِ التشبيهيِّ ، وهو ممتنعٌ لتقدُّمِه عليه ، إلاَّ أن يُقالَ : يُتَوَسَّعُ فيه .

وقيل : المعنى لا يَكِلُ عذابه ولا وَثاقَه لأحدٍ ؛ لأنَّ الأمرَ لله وحدَه في ذلك . وقيل : المعنى أنَّه في الشدة والفظاعةِ في حَيِّزٍ لم يُعَذِّبْ أحدٌ قط في الدنيا مثلَه . ورُدَّ هذا : بأنَّ " لا " إذا دَخَلَتْ على المضارعِ صَيَّرَتْه مستقبلاً ، وإذا كان مستقبلاً لم يطابقْ هذا المعنى ، ولا يُطْلَقُ على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيدٍ ، وبأنَّ " يومَئذٍ " المرادُ به يومَ القيامة لا دارُ الدنيا . وقيل : المعنى أنَّه لا يُعَذِّبُ أحدٌ في الدنيا مثلَ عذابِ اللهِ الكافرَ فيها ، إلاَّ أن هذا مردودٌ بما رُدَّ به ما قَبلَه . ويُحتمل عَوْدُه على الإِنسان بمعنى : لا يُعَذِّبُ أحدٌ من زبانيةِ العذابِ مثلَ ما يُعَذِّبون هذا الكافرَ ، أو يكونُ المعنى : لا يَحْمِلُ أحدٌ عذابَ الإِنسانِ كقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } [ فاطر : 18 ] . وهذه الأوجهُ صَعْبَةُ المَرامِ على طالِبها من غيرِ هذا الموضوعِ لتفرُّقها في غيرِه وعُسْرِ استخراجِها منه .

وقرأ نافعٌ في روايةٍ وأبو جعفر وشَيْبة بخلافٍ عنهما " وِثاقَه " بكسر الواو .